أثر العلاقات الاجتماعية لإمام المسجد
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، إمام الأئمة ، وقدوة الأمة ، ومعلم الناس الخير ، صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه ، الآمرين بالمعروف ، الناهين عن المنكر ، ومن تبعهم بإحسان ، وسار على نهجهم ، إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن أئمة المساجد صفوة الناس ، وقادة المجتمع ، أقرؤهم لكتاب الله ، وأعلمهم بالسنة ، وأنفع الناس للناس ، إنْ هم أخلصوا النية ، وأصلحوا العمل . قد رضيهم قومهم أن يقفوا بينهم وبين ربهم ، في أشرف عباداتهم ، يكبرون بتكبيرهم ، ويركعون بركوعهم ، ويسجدون بسجودهم ، وينصتون لقراءتهم ، و لا يسبقونهم بقول أو عمل . فما أشرف مقامهم ، وما أخطر مهامهم . لعلهم يدخلون دخولاً أولياً في رجاء المؤمنين ودعائهم إذ قالوا : (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(الفرقان: من الآية74) . قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، وغيره : ( أئمةً يقتدى بنا في الخير ) تفسير القرءان العظيم : 6/133 .
إن هذه الوظيفة الدينية الشريفة يمكن أن تكون مفتاح سعادة لصاحبها ، يلج بها أبواباً كانت موصدة ، ويسلك بواسطتها طرقاً ظلت مغلقة ، من أبواب الخير وطرقه ، ما كانت لتتهيأ له لولا تسنمه هذا المنصب الشريف ، إن هو فطِن لمقاصده ، ووعى غاياته .
إن إمام المسجد ، كما يشهد الماضي والحاضر ، أحد رجلين :
1- إمام دين : قد صار في حيِّه سراجاً يزهر ، يعظ ، ويعلم ، ينصح ، ويتفقد . أب لصغيرهم ، وأخ لكبيرهم ، وابن لمسنهم . يألف ، ويؤلف ، ويدعو إلى الله على بصيرة ، ويتألف .
2- إمام دنيا : قد اتخذ الإمامة مطيةً للوصول إلى لعاعة من الدنيا . لا يعرف من إمامته ، في أحسن أحواله ، إلا ما يعرف الموظف من سجل الحضور والانصراف . وليس بينه وبين جماعة مسجده مودة وصلة ؛ لا يعلم جاهلهم ، ولا يتفقد غائبهم ، ولا يعود مريضهم ، ولا يحضر مجالسهم . وتلك قرائن لا شروط ، وأمارات لا واجبات .
إن دور إمام المسجد لا يقتصر على مجرد الإمامة ، بل يتناول جملةً من الفضائل ، والمكرمات الاجتماعية ، تجعل منه مرجعاً لأهل حيِّه ، فيما يعرض لهم من عوارض دينية ، أو اجتماعية ، فيأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر . وهذا يتطلب منه مزيد عناية بالروابط الاجتماعية ، وتوثيقها ، واستثمارها في مشروعه الإصلاحي .
ولعلي أدلل على أهمية العلاقات الاجتماعية للآمر بالمعروف،الناهي عن المنكر، بمثالين نبويين :
المثال الأول : قوله تعالى في قصة شعيب مع قومه : (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) (هود:91) . قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ، رحمه الله ، في فوائد القصة :( ومنها : أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة ، قد يعلمون بعضها ، وقد لا يعلمون شيئاً منها . وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم ، وأهل وطنهم الكفار ، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه ، بسبب رهطه . وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين ، لا بأس بالسعي فيها ، بل ربما تعين ذلك ، لأن الإصلاح مطلوب، على حسب القدرة والإمكان ) تيسير الكريم الرحمن : 3/457 .
المثال الثاني : قوله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )(الشورى: من الآية23) . قال ابن كثير ، رحمه الله : ( أي : قل يامحمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش : لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم مالاً تعطونيه ، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني ، وتذروني أبلغ رسالات ربي ، إن لم تنصروني فلا تؤذوني ، بما بيني وبينكم من القرابة ) تفسير القرءان العظيم : 7/199 .
فتبين من خلال هذين المثلين أثر الروابط الاجتماعية في مساندة الآمرين بالمعروف ، الناهين عن المنكر ، بخلاف من كان نكرةً ، مبتوت الصلة بمحيطه الاجتماعي . وقد كان عامة علماء السنة علماء عامة . فينبغي لإمام المسجد أن يكون راسخ الجذور ، وافر الحضور في مجتمعه .
أولاً : إمام المسجد في أسرته :
إن أولى الناس بنصح الإمام وبره أهل بيته ، فـ ( خيركم خيركم لأهله ) رواه الترمذي وابن ماجه. فلا يسوغ أن يشتغل المرء بالأبعدين ، ويغفل عن الأقربين ؛ فالأقربون أولى بالمعروف . وبيت الإمام في الحي يمثل الأنموذج والمعيار الذي يرقبه ، ويرصده عامة أهل الحي . وسلوك زوجته ، وأبنائه ، وبناته ، محل فحص الجميع ، وموضع استشهادهم ؛ في لباسهم ، ومقتنياتهم ، وألفاظهم، وعلاقاتهم ، فلا غرو أن تتجه همة الإمام إلى إصلاح بيته ، وتقويم أسرته ، حتى لا يكونوا ذريعة يحتج بهم كل جاهل أو متساهل . كان أمير المؤمنين ، عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال : إني نهيت الناس عن كذا وكذا ، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم ، فإن وقعتم وقعوا ، وإن هبتم هابوا . وإني والله لا أوتى برجل وقع فيما نهيت الناس عنه ، إلا أضعفت له العذاب ، لمكانه مني ، فمن شاء منكم أن يتقدم ، ومن شاء منكم أن يتأخر .
فلا يليق ، معشر الأئمة، أن يتحدث الناس ، مثلاً :
1- أن بيت الإمام تعلوه الأطباق الفضائية ! وتسمع منه المعازف والمسلسلات !
2- أن زوجة الإمام وبناته يتساهلن باللباس ، والقصات ، في المجامع والحفلات !
3- أن أبناء الإمام لا يشهدون الصلاة !
أعيذكم بالله من ذلك ، فاتقوا الله في أنفسكم ، ومن ولاَّكم الله عليه ، فإن الناس لكم تبع .
ثانياً : إمام المسجد مع جماعة مسجده :
إن العلاقة التي تربط الإمام بالمصلين علاقة رفيعة ، شفيفة ، خالية من الأغراض الدنيوية، مقامة على تقوى من الله ورضوان، فينبغي أن يظهر أثر ذلك للعيان ، ويخرج من القوة إلى الفعل. ويستصحب الإمام الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، والاحتساب على جماعته، وأهل حيه. ومن صور ذلك الاحتساب :
1- إقام الصلاة : أي أداؤها على وجه الاستقامة والتمام ؛ في شروطها ، وأركانها ، وواجباتها، وسننها ، وتوابعها ، متوخياً إصابة السنة ، غير ملتفت لعوائد وأعراف تخالف السنة ، لا يخاف في ذلك لومة لائم ، حتى يعلم الناس الحق ، ويألفوه .
2- التعليم : بأن يفقه جماعته بأحكام الدين التي يحتاجون إليها في عباداتهم ، ومعاملاتهم ، مراعياً في ذلك مستوى أفهامهم . فما يقال لطلاب العلم ليس كما يقال للعامة .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي ، رحمه الله : ( التعليم له طرق كثيرة ، سوى طرق التعليم في المدارس على اختلاف أنواعها ، وسوى طرق تعليم الطلبة المستعدين للتعلم في أوقات مرتبة ... وإنما المقصود الوسائل والطرق الأخرى التي يجب على أهل العلم أن يسلكوها في إيصال العلم إلى الناس ، على اختلاف طبقاتهم ، ورفع الجهل بحسب الإمكان ، فمنها : إلقاء العلوم في المساجد ، وينبغي أن يلقى إليهم من العلوم ما يكون فهمه أقرب إلى أذهانهم ، وأن يكون أهم الأشياء وأنفعها ، وتكون بعبارات مناسبة لأذهان السامعين ، وأن يلقى في كل موسم ومناسبة ما يليق ويتعلق به ؛ فإن فهم الأشياء الحاضرة أقرب وأشوق للأذهان من أن تكون بغير وقتها. وكذلك ينبغي أن يفهَّموا تدخيل الصور والتفاصيل الموجودة التي يعرفونها، ويعرفون وقوعها، ويبين لهم موضعها ومحلها من العلم ، وهل هي محبوبة للشارع أو مكروهة، وما الطريق إلى تحصيل المحبوب ، وإلى دفع المكروه أو تخفيفه ، وأن تطبق الأمور الواقعية على القواعد الشرعية ، حتى يتم فهمها . فإن أكثر السامعين إذا ألقيت عليهم المسائل الشرعية مجردة عن بيان الأمور الواقعة ، لا يدرون عن دخولها أو خروجها ) الرياض الناضرة .ص :100 .
ومن طرائق التعليم ، وبث العلم المناسبة لزماننا :
- قراءة فصول في التفسير أو الحديث أو الفقه على المصلين ، والتعليق عليها .
- توزيع الكتيبات والنشرات المختصرة ، والأشرطة المسجلة .
- عقد المسابقات الحافزة لأسر الحي على البحث والمطالعة .
- الإجابة على ما يعرض لهم من أسئلة ونوازل .
3- الإحسان إليهم : إن من دواعي قبول الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، الإحسان إلى الخلق بالصدقة ، والهدية ، وقضاء الحوائج ، والشفاعة الحسنة ، ونحوه. أما إذا لم ير الناس من الآمر ، الناهي ، سوى عصاً مهزوزة ، ونبرةً حادة ، وجفوة في القول والفعل ، لم يقبلوا منه ، وانفضوا من حوله . وقد قيل :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
ومن أصرح الأمثلة على هذه الرعاية الاجتماعية من قبل الإمام سيرته صلى الله عليه وسلم مع أهل الصفة : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه ، فيزورهم ، ويتفقد أحوالهم ، ويعود مرضاهم ... وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ، ولم يتناول منها شيئاً ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم ، وأصاب منها ، وأشركهم فيها . وكثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أزواجه ... وقد طلب من ابنته فاطمة ، رضي الله عنها ، أن تتصدق عليهم لما ولدت الحسن ، رضي الله عنه ، بوزن شعره من الفضة . وقد جاء مرة سبي ، فسألته خادماً ، فقال : أُخدمكما ، وأدع أهل الصفة تطوي ! وكان يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ، ليتعشوا عندهم ، ويقول : من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، وإن أربع فخامس أو سادس . فيأخذ الصحابة بعضهم ، ومن بقي منهم يصحبهم النبي صلىالله عليه وسلم إلى داره ، فيتعشون معه ) باختصار عن :السيرة النبوية الصحيحة :1/266 .
ومن طرائق الإحسان إلى جماعة الحي في هذا الزمان :
- إعانة الفقراء ، والغارمين ، وجمع الزكوات والصدقات لهم .
- السعي في قبول أبنائهم في المعاهد والكليات .
- السعي في إيجاد وظائف للعاطلين منهم .
- كتابة أوقافهم ووصاياهم ، والمشورة عليهم بالأفضل .
4- إصلاح ذات بينهم : قال تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114) ، وقال تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)(لأنفال: من الآية1)
فكما يأمر الإمام جماعة مسجده بالتراص والتضام ، وأن يصفوا كما تصف الملائكة عند ربها، قائلاً : سدوا الخلل ! لا تدعوا فرجاً للشيطان ! فكذلك ينبغي أن يصنع من الناحية المعنوية بين أفراد حيِّه ؛ بأن يصلح ما قد ينشأ بينهم من خصومات ، ويسد المنافذ على الشيطان ، فلا يدعه يتسلل بين المؤمنين . إن الإمام الناجح هو الذي يفزع إليه أهل حيه تلقائياً ، كلما أهمهم شيء ، أو طرأ بينهم خلف ، لعلمهم أنهم عيبة نصح ، ومأرز فضل .
5- مناصحة ضالهم : لا يخلو مجتمع من المجتمعات من أفراد استزلهم الشيطان إلى بعض صنوف الانحراف ، كإضاعة الصلاة ، واتباع الشهوات ؛ كشرب المسكرات ، أو تعاطي المخدرات ، أو أكل الربا، أو التعرض للنساء، وما شابه ذلك من القاذورات.
فينبغي لإمام المسجد ، أن يجتهد في النصيحة ، ويستفرغ جهده في الإصلاح ، عن طريق الزيارة ، والموعظة ، والترغيب ، والترهيب ، والاستعانة بالجهات المسؤولة ، إن لزم الأمر. قال صلى الله عليه وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) قالوا : يا رسول الله ، هذا ننصره مظلوماً ، فكيف ننصره ظالماً ؟ فقال : ( تأخذ فوق يديه ) رواه البخاري .
ثالثاً : إمام المسجد في بلدته :
إن البلدة المسلمة مقسمة تقسيماً جغرافياً ، واجتماعيا ، بحسب مساجدها . ومن مجموع هذه الوحدات تتكون البلدة ، أو المدينة الإسلامية . ومن ثمَّ فإن إمام الحي هو الممثل الطبيعي لأهل حيه ، يسعى في مصالحهم ، ويتحدث بألسنتهم . وهذا يتطلب منه أن يكون واسع الصلات ، متنوع العلاقات . فيجمل به أن يتعرف على مسؤولي بلدته ، ووجهائها ، وأهل البر والإحسان من أثريائها . وفوق ذلك : أن يكون معروفاً عند هؤلاء بالذكر الجميل، والسعي في الإصلاح ، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم . فإذا أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، حينئذٍ ، وجد آذاناً صاغية ، وقلوباً واعية .
ومن طرائق الإصلاح العام :
- الاتصال بهيئة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بشأن المتخلفين عن الصلاة .
- الاتصال بالبلدية لتوفير ما يحتاج إليه الحي من خدمات .
- الاتصال بالدوريات والمرور لدفع أذى العابثين بالسيارات .
- الاتصال بإدارة الأوقاف لتلبية احتياجات المسجد .
- الاتصال بمكتب الدعوة لطلب إقامة الدروس والمحاضرات ، وتوفير الأشرطة والكتيبات .
خاتمة :
وبهذا يتبين أن إمام الحي ، إذا وفقه الله ، يمكن أن يستثمر منصبه الديني لتحقيق مزيد من الإصلاح ، من خلال أسرته ، وتقوية آصرته بجماعة مسجده ، وتغلغله في بنية مجتمعه ، فحينئذٍ يجري الله على يديه من الأجر ما لم يكن له في الحسبان . جعلنا الله وإياكم مفاتيح للخير ، مغاليق للشر ، وبارك في أوقاتنا ، وأعمالنا . والحمد لله رب العالمين .
كتبه / أ.د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة . في : 5/2/1424هـ