إيماناً واحتساباً
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد : فإن مما يلفت النظر في ذكر فضائل رمضان من صيام، وقيام، التأكيد على وصفين عظيمين كشرط لحصول المغفرة، وهما الإيمان، والاحتساب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه . ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) متفق عليه. فما المراد بالإيمان، والاحتساب هاهنا ؟ قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: (أَيْ مُؤْمِنًا مُحْتَسِبًا ، وَالْمُرَاد بِالْإِيمَانِ: الِاعْتِقَاد بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ ، وَبِالِاحْتِسَابِ: طَلَب الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيّ : اِحْتِسَابًا أَيْ عَزِيمَة، وَهُوَ أَنْ يَصُومَهُ عَلَى مَعْنَى الرَّغْبَة فِي ثَوَابِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَثْقِل لِصِيَامِهِ وَلَا مُسْتَطِيل لِأَيَّامِهِ ) فتح الباري لابن حجر - (ج 6 / ص 138) وقال ابن بطال :( إيمانًا واحتسابًا - يعنى: مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه، وصيامه. ومحتسبًا: مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه ) شرح ابن بطال - (ج 1 / ص 79) وقال النووي، رحمه الله : ( مَعْنَى ( إِيمَانًا ) تَصْدِيقًا بِأَنَّهُ حَقّ، مُقْتَصِد فَضِيلَته ، وَمَعْنَى ( اِحْتِسَابًا ) أَنْ يُرِيد اللَّه تَعَالَى وَحْده لَا يَقْصِد رُؤْيَة النَّاس ، وَلَا غَيْر ذَلِكَ مِمَّا يُخَالِف الْإِخْلَاص ) [شرح النووي على مسلم - (ج 3 / ص 101)] وقال شيخنا، محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله : ( يعني إيماناً بالله، ورضاً بفرضية الصوم عليه، واحتساباً لثوابه، وأجره، لم يكن كارهاً لفرضه، ولا شاكاً في ثوابه، وأجره، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه) [مجالس شهر رمضان : ص : 14 ] إن التحقق بهذين الوصفين يورث التقوى المرجوة، ومغفرة الذنب الموعودة . وما أحرى المؤمن أن يتمثل هاتين الكلمتين، وهو يلحظ الماء النمير يترقرق في شدة الهجير، وتداعب أنفه رائحة الطعام الشهي، وجوفه خلي. وما أحراه أن يستدعي هذا المعنى حين يصف قدميه في محرابه، أو خلف إمامه، رافعاً كفيه إلى فروع أذنيه، مستفتحاً قيام الليل. إن ذلك يحيل جوعه، وعطشه، وتعبه، وسهره، حلاوةً إيمانية، ونعيماً روحانياً. وحين تفتقد هذه المعاني، لا يبقى إلا الصورة الظاهرة، والجهد الغبين. ولأجل ذا، كان للصوم معاملة خاصة، وتضعيف استثنائي، فقد روى الشيخان، وغيرهما، عن أبي هريرة، رضي الله عنه،قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ. وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ) .
كتبه د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
|