طباعة اضافة للمفضلة
تفضيل صلاة التراويح جماعة في المسجد
2115 زائر
25-06-2015
د. عيسى بن شباب الحيسوني


تفضيل إقامة صلاة التراويح جماعة في المساجد



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فقد تناقلت وسائل الاتصال الحديثة قول من يرى تفضيل صلاة الرجل التراويح في البيت منفرداً على صلاتها في المسجد جماعة، في سياق من الترغيب والحث على ذلك.

وهذا القول قال به بعض العلماء، وهو قول ضعيف، والقول الصحيح الذي عليه جمهور العلماء سلفاً وخلفاً: أن صلاتها جماعة في المسجد أفضل، وذلك للأدلة الآتية:

أولاً: ما رواه الترمذي (٨١٧)، واللفظ له، وأبو داود (١٣٧٥)، والنسائي (١٣٦٤)، وابن ماجه (١٣٢٧) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: ( صمنا فلم يصلِّ صلى الله عليه وسلم بنا حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا يا رسول الله: لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه، فقال:" إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلة"، ثم لم يصلِّ بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، فصلى بنا الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور)، وعند أبي داود" جمع أهله ونساءه والناس"، وعند النسائي:" أرسل إلى بناته ونسائه وحشد الناس"، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.

ووجه دلالته من عدة وجوه:

الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها جماعة في المسجد ثلاث ليال، والأصل في فعله التأسي، والدلالة على الاستحباب.

الوجه الثاني: قوله:" من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة"، فقد رتب على صلاتها جماعة فضلاً، وهو قيام ليلة، وهذا لم يرد في حق من صلاها منفردا، وثبوت الفضل دليل على الأفضلية فيما لم يرد فيه ذلك الفضل الخاص، قال ابن خزيمة في صحيحه (٣/٢٤٠):" وفي قوله دلالة على أن القارئ والأمي إذا قاما مع الإمام إلى الفراغ من صلاته كتب له قيام ليلته، وكَتْبُ قيام ليلة أفضلُ من كتب قيام بعض الليل".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (٢/ ٥٨٩):" وفي هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة".

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا له:" لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه"، لم يرشدهم إلى إحياء بقية الليل بالصلاة، وإنما بين فضل الجماعة فيها، فقال:" من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة".

الوجه الرابع: قوله:" فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا"، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: " ودعا أهله ونساءه"، ولفظ النسائي:" أرسل إلى بناته ونسائه وحشد الناس"، فدعوته للجماعة تدل على فضلها وتفضيلها، ولو لم تكن الجماعة أفضل لكان قد نقلهم من فاضل إلى مفضول، وهذا لا يمكن، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما هو أفضل خاصة أنه أرسل إلى بناته ونسائه وحشد الناس، مع احتمال صلاتهم بالبيوت.

ثانيا: ما رواه البخاري (١١٢٩) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال:" قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم. وذلك في رمضان"، ورواه مسلم(٦٧١) بلفظ:" تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها".

وقد صرح في هذا الحديث أنه في قيام رمضان، وهو دليل على مشروعية الجماعة في التراويح، ولو لم تكن أفضل لبين ذلك، وأخبرهم أن فعلها في البيت أفضل، ولهذا لما أمهم في غير رمضان، ثم ترك قال: " فعليكم بالصلاة في بيوتكم" رواه مسلم من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، فدل على اختلاف حالي القيام بين رمضان وغيره.

ثالثا: ما رواه البخاري (٢٠١٠) عن عبدالرحمن بن عبد القاري أنه قال:" خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون -يريد آخر الليل- وكان الناس يقومون أوله ".

وهذا يدل على مشروعية التراويح جماعة من وجوه:

الأول: أنها كانت تقام الجماعة لها قبل أمر عمر بذلك، ففيه:" ويصلي الرجل، فيصلي بصلاته الرهط".

الثاني: تأكيد عمر على أمر الجماعة حيث جمعهم على إمام واحد، وكان بمحضر الصحابة، فلم ينكره أحد منهم، وهذا يعده بعض أهل العلم إجماعاً.

الثالث: تصريح عمر رضي الله عنه على أن جمعهم على قارئ واحد أمثل أي: أفضل وأولى، وهذا التفضيل في مقابلة تفرقهم، ومنه صلاة بعضهم منفردا.

فإذا ثبت أن الجماعة المستمرة، -لا العارضة- مشروعة، فالأدلة دالة على تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ إضافة إلى الأدلة الخاصة بالتراويح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (٨/ ٣١٠):" وإذا كانت الجماعة مشروعة فيها ففعلها في الجماعة أفضل"

رابعا: أن هذا عمل المسلمين المستمر منذ أمر عمر رضي الله عنه بذلك، قال الحاكم في المستدرك (1/440):" وفيه – يعني حديث أبي ذر السابق- الدليل الواضح أن صلاة التراويح في مساجد المسلمين سنة مسنونة، وقد كان علي بن أبي طالب يحث عمر رضي الله عنهما على إقامة هذه السنة إلى أن أقامها"، وقال النووي في شرح مسلم (٦/ ٣٩-٤٠):" واستمر العمل على فعلها جماعة "، وقال:" واستمر عمل المسلمين عليه؛ لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (٢١/ ٣١٨):" وكما جمع الصحابة القرآن بالمصحف، وكما داوموا على قيام رمضان في المسجد جماعة "، فذكر أن الصحابة داوموا عليها جماعة، وهو إقرار عملي على تفضيل صلاتها جماعة على صلاتها فرادى.

ولم يزل عامة علماء الإسلام على استحباب صلاة التراويح جماعة، قال أبو داود: " سمعت أحمد يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه ، وكان يقوم مع الناس، ويوتر معهم" نقله في المغني (٢/ ٦٠٦).

وقال أبو حفص: " وإنما يكون الوتر آخر الليل أفضل في غير رمضان، فأما في رمضان فالوتر أول الليل تبعاً للإمام". بدائع الفوائد(٤/ ١١٢).

وقد أُورِد على هذه الأدلة إيرادات:

الإيراد الأول: حديث زيد بن ثابت في مسلم (٧٨١) قال :احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فتتابع إليه رجال وجاؤوا يصلون بصلاته، قال: ثم جاؤوا ليلة، فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله، فقال: مازال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

ووجه الإيراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على صلاة الليل في البيوت مبينا فضلها فيها بعد ما صلاها بهم جماعة.

والجواب: أن هذا ليس في قيام رمضان، وإنما في قيام الليل في غير رمضان، قال النووي في شرح مسلم(٦/ ٧٠):" هذا عام في جميع النوافل المترتبة مع الفرائض والمطلقة، إلا النوافل التي من شعائر الإسلام، وهي العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، فإنها مشروعة في جماعة في المسجد"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (٨/ ٣٠٩):" المراد بذلك ما لم تشرع له الجماعة، وأما ما شرعت له الجماعة كصلاة الكسوف ففعلها في المسجد أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق العلماء".

ويدل على ذلك أنه لم يرد لرمضان ذكر في هذا الحديث، بينما حديث صلاته صلى الله عليه وسلم بهم في قيام رمضان جاء في سياق مختلف؛ حيث اقتصر على خشيته من أن يفرض عليهم القيام، ولم يحثهم على صلاته في البيت خلافاً لهذا الحديث.

وعليه: فلا معارضة بين حديث صلاة أبي ذَر رضي الله عنه الدال على تفضيل صلاة التراويح جماعة، وبين حديث زيد رضي الله عنه الوارد في تفضيل صلاة النافلة في البيت؛ لأن حديث أبي ذَر خاص بقيام رمضان، وحديث زيد عام في النوافل، والخاص مقدم على العام.

الإيراد الثاني: أن عمر قال:" والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"، وهذا تفضيل لحال الانفراد.

والجواب: قال العراقي في طرح التثريب (٣/ ٩٦):" ليس فيه ترجيح الانفراد، ولا ترجيح فعلها في البيت، وإنما فيه ترجيح آخر الليل كما صرح به الراوي"، وبهذا جزم ابن حجر في فتح الباري (٤/ ٢٥٣).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المنهاج (٨/ ٣١٠):" وهذا كلام صحيح، فإن آخر الليل أفضل، كما أن صلاة العشاء في أوله أفضل، والوقت المفضول. قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره".

الإيراد الثالث: حمل تفضيل الجماعة على حال الأمي وغير القارئ الحافظ، وتفضيل الانفراد في حال القارئ الحافظ.

والجواب: أن " من " في قوله:" من قام مع الإمام " من ألفاظ العموم، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، وهو قول الجمهور، قال ابن خزيمة في صحيحه (٣/ ٣٣٩):" الدليل على أن قيام رمضان في جماعة أفضل من صلاة المرء منفرداً في رمضان، وإن كان المأمومون قراء يقرؤون القرآن".

الإيراد الرابع: ظاهر حديث عبدالرحمن بن عبد القاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يصل معهم التراويح.

والجواب:

أولاً: الوارد عن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث حاله في ليلة واحدة، فلا يجزم بنفي الصلاة معهم مطلقا، ولهذا قال ابن حجر في الفتح (٤/ ٢٥٣):" فيه إشعار بأن عمر كان لا يواظب على الصلاة معهم"، ونفي المواظبة، لا ينفي صلاته معهم في أحوال أخرى.

ثانيا: أن قضايا الأعيان لا عموم لها، فقد تكون لعمر رضي الله عنه ظروف معينة معتبرة، خاصة أنه لم يرد أنها حال مستمرة.

ثالثا: أن عمر رضي الله عنه ما كان ليحمل الناس على القيام جماعة في المسجد، وهو يرى أن صلاتهم فرادى أفضل، بل المتعين من نصحه للأمة، وهو إمامهم أن يهديهم إلى ما هو أفضل، وقد أثنى رضي الله عنه على إقامتها جماعة مع إمام واحد في المسجد، فقال:" نعم البدعة هذه"، ولم يفضل إلا في الوقت، فقال:" والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل"، وهذا صريح على تفضيل الجماعة.

رابعا: فضل الجماعة في التراويح ثبت بحديث قولي، وآخر فعلي، وبأدلة عامة وخاصة، وبعمل مستمر من المسلمين، وهذه أدلة ظاهرة الدلالة، وهي كافية في ثبوت الأفضلية، فلا يصح أن تعارض بقضايا أعيان لا يصح تعميمها.

خامسا: أن القول مقدم على الفعل، فقول عمر رضي الله عنه في تفضيل الجماعة مصحوب بحمل الناس عليها، فهو أقوى، وفعله ترد عليه احتمالات تمنع أن يكون معارضا مقاوما للقول، ولهذا تنسب سنية الجماعة، وتعد منقبة له رضي الله عنه، قال السفاريني في شرح ثلاثيات المسند (١/ ٥٧٧):" وهذه سنة عمرية، وأصلها سنة نبوية"، ويذكر قوله مع الجمهور، ولا ينسب له قول في الرأي المخالف.

الإيراد الخامس: ما ورد عن بعض السلف من تفضيل الانفراد في حق القارئ.

والجواب: أن هذا اجتهاد منهم، ويعتبر قولاً آخر، وليس حجة يستدل بها، وهو قول مقابل بقول الجمهور في تفضيل صلاة التراويح جماعة في المسجد، وقد نص على أن هذا قول جمهور العلماء ابن حجر في الفتح (٤/ ٢٥٢) فقال:" وإلى قول عمر جنح الجمهور"، وقال النووي في شرح مسلم (٦/ ٣٩)، والعراقي في طرح التثريب (٣/ ٩٤):" وبهذا قال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية"، وقال النووي في شرح مسلم (٦/ ٧٠):" وكذا التراويح على الأصح، فإنها مشروعة في جماعة في المسجد".

وهنا وقفة تربوية:

قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المفضول يكون فاضلاً لسبب يقتضيه، فمن يرى أن الأفضل للرجل أن يصلي صلاة التراويح في البيت منفرداً، فليوازن بين حالي الانفراد والجماعة من حيث التربية من عدة جوانب:

أولاً: أثر قوله بأفضلية الانفراد والعمل بذلك في أولاده ومن يقتدي به من الناس حيث يوقع في نفوسهم التهاون في قيام رمضان، ويدب شيئا فشيئا، فينتهون إلى تركه بالكلية، وهذا مشاهد في سائر الشعائر التي أصيبت بالتأويل والأخذ بالرخص حتى تجاوزوا إلى الممنوع خاصة مع ضعف الورع، وموافقة حظ النفس.

ثانيا: المسلمون في رمضان أشد إقبالاً على الطاعة، وإعراضاً عن المعصية، فيقبلون على تلاوة القرآن، ويحرصون على التراويح في المساجد؛ لما ورد في هاتين العبادتين من الفضل، والاجتماع للصلاة يحدث نشاطا، ويعلي الهمة، ويعقد العزم على فعل الخير والمداومة عليه، وهذه الحال توجب تقديرا دعويا راشدا في تعظيم شأنها والترغيب في المداومة عليها، فإذا أضعفت هذه الحال بالدعوة قولا أو سلوكا بتفضيل حال الانفراد على الجماعة، ستتراخى العزائم، ويضعف العمل.

ثالثا: لا زال علماؤنا الكبار يصلون التراويح جماعة في المساجد أئمة أو مأمومين، فلا يعرف عن أحد خلاف ذلك، ولا تجد في كتبهم المنشورة إلا الحث على إقامتها جماعة في المساجد، وهم في ذلك محل قدوة واهتداء، فكان لهديهم وسلوكهم أثر ظاهر في محافظة المسلمين على التراويح جماعة في المساجد.

هذا وأسأل الله أن يتقبل منا الصيام والقيام وصالح العمل وأن يبلغنا التمام.

وصلى الله على نبينا محمد وسلم

أخوكم: د. عيسى بن شباب الحيسوني

٣ رمضان ١٤٣٦ هـ

   طباعة 
0 صوت
صلاة
« إضافة تعليق »
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
  أدخل الكود
روابط ذات صلة
المادة السابق
المواد المتشابهة المادة التالي
جديد المواد
رسالة إلى إمام التراويح - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى صائم - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى خطيب - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى إمام - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى زوج - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي