المسؤولية في
الإسلام
إن
الحمد لله نحمده, ونستعينه, ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات
أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
المسؤولية
في الإسلام: تعني أن المسلم المكلف مسؤول عما جعل الله له سلطانًا عليه, وقدرة
بالتصرف فيه بأي وجه من الوجوه.
وتنقسم المسؤولية إلى:
- مسؤولية
شخصية فردية: وهي التي يسأل فيها عن نفسه وجوارحه وبدنه وعلمه..وهي المتمثلة في
قوله r (لاَ تَزُولُ قَدَمَا
عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ،
وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ
أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ).
وقال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
وقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة:5-6]. وهذه
الآيات تبين مدى مسؤوليته عن جميع أعماله.
- مسؤولية اجتماعية
(جماعية): وهي التي يسأل فيه المكلف عما استرعه الله إياه, وجعله تحت تصرفه.
وهي
المتمثلة في قول النبي r (أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ, وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ, فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ, وَهُوَ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ, وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ, وَهُوَ مَسْئُولٌ
عَنْهُمْ, وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ, وَهِىَ
مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ, وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ, وَهُوَ مَسْئُولٌ
عَنْهُ, أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ, وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
وفي رواية للبخاري (...والرجل راع, في مال أبيه, ومسئول عن رعيته, وكلكم راع,
ومسئول عن رعيته) .
وما
سنتناوله من هذا الحديث قوله r (أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ, وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ...وَالرَّجُلُ
رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ, وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ, وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ
عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ, وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ) وهذا الخطاب يخص
(الزوج-الزوجة) الأسرة, إذ هي لبنة المجتمع المسلم, فلا يصلح المجتمع, ولا يستقيم,
إلا بصلاحها. ولعل الله ييسر وقفة مع كل
عبارات الحديث فيما بعد أن شاء الله.
كلكم راع:
الرَّاعي: (كُلُّ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ قَوْمٍ ) بالحِفْظِ
والسِّياسَةِ .
وقيل الراعي: هو حافِظٌ مؤْتَمَنٌ. والرَّعِيَّةُ: كل
من شَمِلَه حِفْظُ الراعي ونَظَرهُ.
قوله r (وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ):
كما سبق عرفنا الراعي بأنه كل من ولي أمر قوم
بالحفظ والسياسة.
وهذا الحفظ يكون بحفظ دينهم ودنيهم.وهم:
-
أولا: الأبناء
(وهي مسؤولية مشتركة بين (الرجل -والمرأة).
وتتجلى هذه المسؤولية الدينية بوضوح في حق الأبناء بقوله
r (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ
فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ
الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ).
فانظر مدى
تأثير الإباء في أبنائهم, في تكوين عقائدهم, ومن هنا كان للإباء دور كبير تجاه
الأبناء. وأخطأ من ظن أن المسؤولية ما هي
إلا توفير احتياجات المعيشة.
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول تعالى ذكره: يا أيها
الذين صدقوا الله ورسوله (قُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول: علموا بعضكم بعضا ما تقون به من
تعلمونه النار، وتدفعونها عنه إذا عمل به من طاعة الله، واعملوا بطاعة الله.وقوله:(
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) يقول: وعلموا أهليكم من العمل بطاعة الله ما يقون به أنفسهم).
وعن ابن عباس، قوله:( قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ) يقول: اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم
بالذكر ينْجيكم الله من النار).
قال علي بن أبى طالب رضي الله عنه
ومجاهد وقتادة معناه علموهم ما ينجون به من النار.
قال
السعدي رحمه الله: يا من مَنَّ الله عليهم بالإيمان، قوموا بلوازمه وشروطه.
فـ{قُوا
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} موصوفة بهذه الأوصاف الفظيعة، ووقاية الأنفس بإلزامها
أمر الله، والقيام بأمره امتثالا ونهيه اجتنابًا، والتوبة عما يسخط الله ويوجب العذاب،
ووقاية الأهل [والأولاد]، بتأديبهم وتعليمهم، وإجبارهم على أمر الله، فلا يسلم العبد
إلا إذا قام بما أمر الله به في نفسه، وفيما يدخل تحت ولايته من الزوجات والأولاد وغيرهم
ممن هو تحت ولايته وتصرفه.
فعن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله r« مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ
وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ
في الْمَضَاجِعِ».
وقول r (وإن لولدك عليك حقا).
قال
الشافعي رحمه الله: على الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم، ويعلموهم الطهارة ويضربوهم
على ذلك إذا عقلوا .
قال
الماوردي رحمه الله: وهذا كما قال يلزم الآباء حتما واجبا أن يعلموا صبيانهم
الطهارة والصلاة إذا عقلوا وهم إذا بلغوا سبع سنين، ويلزمهم أن يضربوهم على تركها
حين البلوغ، وهو في الجواري لتسع والغلمان لعشر...ولأن في تعليمهم ذلك قبل بلوغهم
إلفاً لها، واعتيادا لفعلها، وفي إهمالهم وترك تعليمهم ما ليس يخفى ضرره من
التكاسل عنها عند وجوبها، والاستيحاش من فعلها وقت لزومها، فأما تعليمهم ذلك لدون
سبع سنين، فلا يجب عليهم في الغالب لا يضبطون تعليم ما يعلمون، ولا يقدرون على فعل
ما يؤمرون، فإذا بلغوا سبعا ميزوا وضبطوا ما علموا، وتوجه فرض التعليم على آبائهم،
لكن لا يجب ضربهم على تركها، وإذا بلغوا عشرا وجب ضربهم على تركها ضربا غير مبرح،
ولا ممرض، في المواضع التي يؤمن عليهم التلف من ضربها، فإذا بلغوا الحلم صاروا من
أهل التكليف وتوجه نحوهم الخطاب، ووجب عليهم فعل الطهارة، والصلاة، وجميع العادات .
قال
النووي رحمه الله: على الأب تأديب ولده وتعليمه ما يحتاج إليه من وظائف الدين وهذا
التعليم واجب على الأب وسائر الأولياء قبل بلوغ الصبي والصبية.
وحكى ابن القيم -رحمه الله- عن شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله
( تنازع
أبوان صبيا عند بعض الحكام, فخيره بينهما, فاختار أباه. فقالت له أمه: سله لأي شيء
يختار أباه؟؟, فسأله, فقال: أمي تبعثني كل يوم للكتاب, والفقيه يضربني, وأبي يتركني
للعب مع الصبيان, فقضى به للأم. قال أنت أحق به.
وقال:
إذا ترك أحد الأبوين تعليم الصبي وأمره الذي أوجبه الله عليه فهو عاص ولا ولاية له
عليه بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له, بل إما أن ترفع يده عن الولاية
ويقام من يفعل الواجب, وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب إذ المقصود طاعة الله
ورسوله بحسب الإمكان) .
وقال
الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وهذا من حقوق الأولاد على آبائهم؛ أن يأمروهم
بالصلاة إذا بلغوا سبع سنوات، وأن يضربوهم عليها أي: على التفريط فيها وإضاعتها إذا
بلغوا عشر سنين، ولكن بشرط أن يكونا ذوي عقل.
فإن بلغوا سبع سنين أو عشر سنين وهم لا
يعقلون، يعني فيهم جنون؛ فإنهم لا يؤمرون بشيء، ولا
يضربون على شيء، لكن يمنعون من الإفساد؛ سواء في البيت أو خارج البيت.
وقوله: ((اضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين)): المراد الضرب الذي
يحصل به التأديب بلا ضرر، فلا يجوز للأب أن يضرب أولاده ضرباً مبرحاً، ولا يجوز أن
يضربهم ضرباً مكرراً لا حاجة إليه، بل إذا احتاج إليه مثل ألا يقوم الولد للصلاة
إلا بالضرب فإنه يضربه ضرباً غير مبرح، بل ضرباً معتاداً؛ لأن النبي r إنما أمر بضربهم لا لإيلامهم
ولكن لتأديبهم وتقويمهم.
|