طباعة اضافة للمفضلة
حسن العبادة
4973 زائر
15-07-2013
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


بسم الله الرحمن الرحيم

حسن العبادة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 2]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي قال لحِبِّه معاذ بن جبل: (أوصيك يا معاذ : لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) [1]. أما بعد:

فإن الله خلق الخلق لعبادته، كما قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : 56]، بل خلق الكون لهم لتحقيق هذه الغاية الشريفة كأحسن ما تكون، فقال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[هود: 7].فحكمة الخلق العبادة، ومدار الابتلاء على حسنها وكمالها وتمامها.

و (العبادة) لها معنيان: معنىً باعتبار حقيقتها، ومعنى باعتبار مفرداتها، وبعبارة أخرى: معنىً باعتبار التعبد، ومعنىً باعتبار المتعبد به:

فالأول: كمال المحبة مع كمال الخضوع والتذلل.

والثاني: ما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: (" الْعِبَادَةُ " هِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ : مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ)[2]

و(حسن العبادة): كمالها، وتمامها، بحيث تقع على الوجه المرضي للمعبود. قال تعالى عن خليله إبراهيم: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)[البقرة : 124]، فاستحق الإمامة بإتمام العبادة.وفسر النبي صلى الله عليه وسلم مرتبة (الإحسان) التي هي أعلى مراتب الدين، بقوله: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)[3]، فجعل الإحسان دائراً بين حال الطلب والهرب.

وقد شرع الله لعباده أسباباً يتوصلون بها إلى (حسن العبادة)، وحقق نبيه صلى الله عليه وسلم ذلك؛ جامعاً بين حقيقة التعبد، ويسر العبادة.

فحري بالعاقل اللبيب، والحازم الرشيد أن يتفطن لهذه الحكمة، فلا تعزب عن باله، ويعتني بحسن عبادته، حتى تستوعب جميع كينونته، كما أمر سبحانه خيرته من خلقه، سيد المتعبدين، وخاتم الأنبياء والمرسلين أن يقول: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام : 162]. وربما بلغ المرء بالعمل المتقن الحسن الجميل، ما لم يبلغه غيره، بخلافه من العمل الكثير.

وفيما يلي ثمانية أسباب مستوحاة من أدلة الكتاب والسنة، وفهم سلف المة، تعين على تحقيق هذا المقصد النبيل.


أسباب تحقيق حسن العبادة

أولا: الإخلاص لله تعالى:

وهو لب الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، والسلم الرفيع الذي يتفاوت العبَّاد في درجاته، والمعدن النفيس الذي يتنافس الصالحون في تحقيقه والتخلص من شائباته. فلا تنعقد عبادة إلا به، ولا تزكو إلا باستصحابه. وقد تكاثرت أدلة الكتاب والسنة على اشتراطه واستحبابه. فمن ذلك:

قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الزمر 2 ,3

وقال تعالى:( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ) الزمر11

وقال:( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي) الزمر 14

وقال:( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) الأعراف 29

وقال:( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) غافر 14

وقال:(هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) غافر65

وقال:( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) البينة 5

وقال:( لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) النساء114

وقال في الحديث القدسي: " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ "[4]

وقال صلى الله علي وسلم " أَيُّهَا النَّاسُ! إِيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: " يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا؛ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَذَاكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ "[5]


وكان للسلف الصالح فيه أحوال ومقامات، ومجاهدات ومقالات:

قال حماد بن زيد: (كان أيوب السختياني ربما حدث بالحديث , ويقول:ما أشد الزكام, يظهر أنه مزكوم, لإخفاء البكاء)[6]

وعن محمد بن واسع، رحمه الله، قال: (أدركت رجالًا، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالًا يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده، لا يشعر به الذي إلى جانبه) [7]

وعن ابن أبي عدي قال :(صام داود أربعين سنة لا يعلم به أهله. وكان خزازًا يحمل معه غداءه من عندهم فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشاء فيفطر معهم )[8]. وليس مراده أنه يصوم الدهر، بل يصوم الصوم المشروع، كل هذه المدة، لا يعلم به أهله.

وقال سفيان الثوري رحمة الله : ( بلغني أن العبد يعمل العمل سراً ، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه، فيكتب في العلانية ، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحب أن يحمد عليه ، فينسخ من العلانية، فيثبت في الرياء.) [9]

فهذا أعظم الأسباب! وهو يحتاج من العبد إلى نظرٍ وتمعن، وممارسة، ومجاهدة، ومراقبة ومحاسبة، حتى تزكو نفسه، ويسلم وجهه لله، لا يلتفت لأحد سواه.


ثانيا: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم :

وذلك أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامه، ويتخيله أمامه؛ فكلما هم بعمل من الأعمال ساءل نفسه: ما ذا لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، أي شيء يصنع؟ ثم استنار بهدي السنة في كل ما يأتي وما يذر. ومن أدلة ذلك:

قال تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب 21

وقال:( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر7

وقال:( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل44

وقال صلى الله عليه وسلم :" مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ" [10]

وفي رواية "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"

وقال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي"[11]

وقال: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" [12]

وقال ابن مسعود رضي الله عنه:(اقتصاد في اتباع خير من اجتهاد في ابتداع) [13]

ونتيجة ذلك ألا يستحسن المتعبد بدعة، ولا يروق له حدث، بل يلزم السنة ظاهراً وباطناً.


ثالثا: أداؤها مع الخوف والرجاء :

وهو حال المؤمنين الموحدين الذين أثنى الله عليهم بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) [الإسراء : 57]. وهذا تكيُّف إيماني بديع، ومعادلة نفسية دقيقة، تتحقق بها العبودية المطلقة. فالخوف والرجاء كجناحي الطائر؛ يطير بهما العابد إلى مولاه.

وقد وصف الله حال العُبًّاد الصادقين، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) المؤمنون 60، وفسر ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ وَيَزْنِي وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ يَخَافُ اللهَ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ، وَهُوَ يُخَافُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ " [14]، وبلفظ الترمذي: (لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ).

قال ابن كثير رحمه الله: (أي يعطون العطاء، وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط)[15]

وقال عن خليله إبراهيم، وابنه إسماعيل، عليهما السلام، حال رفعهما القواعد من البيت: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة 127

قال أبو الدرداء:( لأن استيقن أن الله تقبل مني صلاة واحدة، أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ إن الله يقول "إنما يتقبل الله من المتقين ") [16]


رابعا: الخشوع والإخبات, وانشراح الصدر :

وهذا حال خاص، بمنزلة الثمرة لما قبله من الأوصاف، يصطبغ به المؤمن ظاهراً، وباطناً، فيسكن قلبه، ويظهر على أساريره، وجوارحه في جميع عباداته:

قال في الصلاة:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) المؤمنون (1-2)

وقال في الدعاء:( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء90، وقال :( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)الأعراف (55-56)

وقال في الزكاة والنفقات: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا. وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)الإنسان: 8-12 وقال: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)التوبة:99.

وعلى النقيض من ذلك عاب المنافقين وأبطل أعمالهم, فقال:( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة 54. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : (أنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيط البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب، يرجو ذخرها وثوابها من اللّه وحده، ولا يتشبه بالمنافقين)[17]

كما ذم الله طائفة من الأعراب المنافقين، فقال: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة : 98]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحمه الله، في فوائد الآية: (ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنماً، لا مغرماً)[18]. وهذا أمر تشتد إليه الحاجة عند الإنفاق، لتقع عبادته موقعاً حسناً.

ومن القواعد النافعة أن الوصف المتعلق بذات العبادة؛ كالخشوع، أولى بالمراعاة من الوصف المتعلق بزمانها، أو مكانها.


خامسا: المداومة :

وهذه خصلة من أخص خصال المتعبدين الموفقين، الذين أثنى الله عليهم بقوله: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ) [المعارج : 22 ، 23]

وكثير من الناس تدركه رقة، أو تأخذه شِرَّة، فيقبل ثم يمل، فينقطع! حتى إن الله تعالى عتب على السابقين الأولين؛ فعن ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إِلاَّ أَرْبَعُ سِنِينَ.[19] وقد تضمنت النعي على أهل الكتاب الذين طال عليهم الأمد، ففتروا عن العمل، فقست قلوبهم، فهان عليهم الوقوع في الفسق.

وقال:( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) الحجر99

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص:" يَا عَبْدَ اللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ"[20]

وعن عائشة رضي الله عنها قالت" وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ"[21]، وعنها

رضي الله عنها قالت:" كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا

نَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً"[22]

وعن ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَتْ:"كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا، أَوْ نَسِيَهُمَا فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا"

وقال في المداومة على الدعاء: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي"[23]. وفي رواية عند مسلم "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: "قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ"[24]

وعن شداد بن أوس، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، فَاكْنِزُوا هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ) الحديث[25]

ومن عميق فقه السلف قول الحسن البصري، رحمه الله: إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما في طاعة الله عز وجل فبغاك وبغاك، فرآك مداوماً، ملَّك ورفضك. وإذا رآك مرة هكذا، ومرة هكذا، طمع فيك.[26]


سادسا: الاستعانة بالله تعالى :

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده يومًا، ثم قال: (يا معاذ والله إني لأحبك)، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وأنا والله أحبك. قال: (أوصيك يا معاذ، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وأوصى بذلك معاذ الصنابحي، وأوصى بها الصنابحي أبا عبد الرحمن، وأوصى بها عبد الرحمن عقبة بن مسلم.[27]

وقد قرن الله بين العبادة و الاستعانة , فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الفاتحة2 وقد قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

قال ابن القيم، رحمه الله: (الناس في هذين الأصلين وهما العبادة والاستعانة أربعة أقسام: أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: "يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب. وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله، وتيسير أسبابه. فتأملها.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في "إياك نعبد وإياك نستعين")[28] ثم ذكر بقية الأقسام: المعرضون عن عبادته والاستعانة به، ومن له نوع عبادة بلا استعانة، ومن له استعانة بلا عبادة.


سابعاً: اليسر وترك التكلف والعنت :

وصف الله كتابه باليسر، فقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : 17] وامتن على نبيه باليسر، فقال: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)، ولهذا (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا. فإن كان ثمَّ إثم كان أبعد الناس منه)[29]. وجعل دينه وشريعته عنوان اليسر والسماحة.

وقد عقد الحافظ الرباني، ابن رجب، رحمه الله، فصلا في رسالته الماتعة: (المحجة في سير الدلجة) جمع فيه جملة حسنة من النصوص، فقال: (أن أحب الأعمال إلى الله ما كان علي وجه السداد والاقتصاد والتيسير، دون ما كان علي وجه التكلف والاجتهاد والتعسير.

كما قال تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)البقرة185.

وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) المائدة 106.

وقال تعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)الحج78.

وكان النبي صلي الله عليه وسلم يقول:" يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا"[30]

وقال:" إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"[31]. وفي المسند عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَدْيَانِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ:" الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ " [32]

وفيه أيضا عن محجن بن الأدرع أن النبي صلي الله عليه وسلم دخل إلى المسجد فرأى رجلاً قائما يصلي فقال :"أتراه صادقاً؟" فقيل: يَا نَبِيَّ اللهِ، هَذَا فُلَانٌ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَوْ قَالَ: أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ صَلَاةً . قَالَ: " لَا تُسْمِعْهُ فَتُهْلِكَهُ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ "[33]

وفي رواية أخرى له قال:" إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ"[34]

وفي رواية أخرى له قال:" إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْرَ بِالْمُغَالَبَةِ "[35]

وخرجه حميد بن زنجويه وزاد فيه فقال :"و اكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا, وعليكم بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة" .

وفي المسند عن بريدة قال : خرجت فإذا رسول الله يمشي, فلحقته فإذا نحن بين يدي رجل يُصَلِّي، يُكْثِرُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُرَاهُ يُرَائِي؟" فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَتَرَكَ يَدِي مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يُصَوِّبُهُمَا وَيَرْفَعُهُمَا وَيَقُولُ: "عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا. عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا. عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ"[36]

وقد روي من وجه آخر مرسلاً, وفيه أن النبي قال:"إن هذا آخذ بالعسر، ولم يأخذ باليسر" ثم دفع في صدره، فخرج من المسجد ولم يُر فيه بعد ذلك.

وقد أنكر النبي صلي الله عليه وسلم علي من عزم علي التبتل، والاختصاء، وقيام الليل, وصيام النهار, وقراءة القرآن كل ليلة, كعبد الله بن عمرو بن العاص, وعثمان بن مظعون, والمقداد وغيرهم. وقال :" لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[37].

وانتهى بعبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في كل سبع , وفي رواية أنه انتهى به إلي قراءته في كل ثلاثة , وقال :" لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ "[38]، وانتهى به في الصيام إلي صيام داود , وقال :"لا أفضل من ذلك"، وفي القيام إلي قيام داود عليه السلام.[39] )[40]

وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج ذماً ذريعاً، مع شدة اجتهادهم، وعنتهم، فعفي صحيح البخاريَ عن أَبِي سَعِيدٍ الْخدْرِيِّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينَ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ)[41]، وعند مسلم: (فَيَتَمَارَى فِى الْفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَىْءٌ)[42]. والفوقة: موضع الوتر من السهم. والمقصود أنهم حملوا أنفسهم حملاً عنيفاً على عبادات لم ينتفعوا بها، ولم تحقق آثارها.

فينبغي للمتعبد المحسن أن يدرك هذا المعنى، ويسوس نفسه سياسة السائس لجواده؛ فإن وجد من نفسه إقبالاً ونشاطاً زاد في العمل، وإن رأى في نفسه انقباضاً وازوراراً، وفي بدنه خمولاً وفتوراً، أرخى لها الزمام. ويدل على هذا المعنى الدقيق ما رواه أبو هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة)[43]


ثامناً: أداء كل عبادة في وقتها المناسب :

عقد المقريزي، رحمه الله، فصلاً في (تجريد التوحيد المفيد) في مقامات المتعبدين، واختلاف طرائقهم في أفضل العبادات، وأنفعها، وأحقها بالإيثار والتخصيص، فجعلهم أربعة أصناف:

(الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات، وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها...

الصنف الثاني: قالوا : أفضل العبادات وأنفعها: التجرد، والزهد في الدنيا ...

الصنف الثالث: رأوا أن أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعدٍ ...

الصنف الرابع : قالوا : أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سبحانه وتعالى واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته .

فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن .

والأفضل في وقت حضور الضيف :القيام بحقه والاشتغال به .

والأفضل في وقت السحر :الاشتغال بالصلاة ,والقرآن, والذكر , والدعاء.

والأفضل وقت الآذان: ترك ما هو فيه من الأوراد , والاشتغال بإجابة المؤذن .

والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه , والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى المسجد وإن بعد .

والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن .

والأفضل في السفر :مساعدة المحتاج , وإعانة الرفقة , وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة .

والأفضل في وقت قراءة القرآن :جمعية القلب ,والهمة على تدبره , والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية القلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .

والأفضل في وقت الوقوف بعرفة :الاجتهاد في التضرع , والدعاء والذكر .

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل و التحميد وهو أفضل من الجهاد غير المتعين .

والأفضل / في العشرة الأواخر من رمضان: لزوم المساجد والخلوة فيها, مع الاعتكاف, والإعراض عن مخالطة الناس والاشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم , وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء .

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته : عيادته , وحضور جنازته , وتشييعه , وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك .

والأفضل وقت نزول النوازل , وإيذاء الناس لك : أداء واجب الصبر مع خلطتك لهم ، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أو إيذائهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه ، وعزلتهم في الشر أفضل من خلطتهم فيه . فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله , وقلله ، فخلطتهم خير من اعتزالهم .

وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد ، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلق به من العبادة وفارقه , يرى نفسه كأنه قد نقص , ونزل عن عبادته، فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد , وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره , بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى : إن رأيت العلماء رأيته معهم , وكذلك مع الذاكرين ، والمتصدقين , وأرباب الجمعية , وعكوف القلب على الله ، فهذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كل طريق والوافد عليه مع كل فريق .

واستحضر هنا حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بحضوره: (هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً ؟ ، قال أبو بكر : أنا ، قال : هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائماً ؟، قال أبو بكر : أنا ، قال : هل منكم أحد عاد اليوم مريضاً ؟ ، قال أبو بكر : أنا ، قال : هل منكم أحد اتبع جنازة ؟ ، قال أبو بكر : أنا )) الحديث[44].[45]

فهذا هو (السلوك) الشرعي، لا (سلوك) أهل البدع والأحوال والمقامات من مبتدعة الصوفية، والعبَّاد الجهال، الذين يقعون أسرى لرسوم وأحوال، ويرتهنون لعوائد وقيود. فالمؤمن يتقلب في عبادة ربه في جميع أحواله، ويطلب مراضيه في كل عمل يعرض له، دون أن يحول بينه وبين مصالحه، ومعاشرته للخلق. والله الموفق.

فنسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يجعل لنا من أمرنا رشدًا، وأن يهيئ لنا من أمرنا مرفقاً، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.

كتبه: د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة. 20/8/1434



[1] رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي.

[2] مجموع الفتاوى - (10 / 149

[3] صحيح مسلم : (1 / 28)

[4]رواه مسلم (2985)

[5] رواه ابن خزيمة بإسناد صحيح , وحسنه الذهبي (السنن الكبرى للبيهقي 3585)

[6] كتاب اللطائف جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي متوفى 579

[7] حلية الأولياء

[8] (تاريخ مدينة دمشق )

[9] حلية الأولياء.

[10] متفق عليه.

[11] البخاري 631

[12] السنن الكبرى البيهقي 9524

[13] مجموع الفتاوى ج22 طباعة مجمع الملك فهد ص 301

[14]رواه أحمد (26263)والترمذي ولفظه(3175)

[15] تفسير ابن كثير ط دار الفكر ج3 ص303

[16] الدرر المنثور

[17] تفسير ابن سعدي ص340مؤسسة الرسالة

[18] تفسير ابن سعدي : 3/288

[19] صحيح مسلم: (8 / 243)

[20] متفق عليه

[21] متفق عليه

[22] مسلم746

[23] البخاري(6340),مسلم(2735/91).

[24] مسلم(2735/92)

[25] مسند أحمد : (4 / 122)

[26] مسلم835

[27]رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني.

[28] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين - (1 / 90)

[29] متفق عليه.

[30] البخاري(69)مسلم(1734) عن أنس مرفوعا.

[31] البخاري (220)عن أبي هريرة مرفوعاً.

[32] (1/236),وقال الهيثمي في المجمع (1/60):رواه أحمد والطبراني في "الكبير" "و الاوسط" ,و البزار وفيه إسحاق,وهو مدلس ولم يصرح بالسماع

[33] المسند (5/32)

[34] المسند (4/338)

[35] المسند(4/337).وقال الهيثمي (9/369): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

[36] المسند(22963).

[37] البخاري (5063) , مسلم (1401)

[38] أبي داود (1390) وصححه الألباني

[39] البخاري (5052) , مسلم (1159)

[40] من كتاب المحجة في سير الدلجه

[41] (صحيح البخاري : (6 / 244)

[42] صحيح مسلم : (3 / 112)

[43] صحيح البخاري : (1 / 16)

[44] مسلم 1028

[45] تجريد التوحيد المفيد : 92-100

   طباعة 
3 صوت
« إضافة تعليق »
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
  أدخل الكود
روابط ذات صلة
الإصدار السابق
الإصدارات المتشابهة الإصدار التالي
جديد الإصدارات
الدرر اللوامع في الخطب الجوامع - إصدارات مركز المشير
مختصر قواعد عربية - إصدارات مركز المشير
منبر السلام: خطب جمعة منتقاة - إصدارات مركز المشير