---
الخلافات الزوجية : أسبابها ، وعلاجها
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده
، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من
يهده الله فلا مضل لله ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له ، القائل : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها ،
وجعل بينكم مودة ورحمة ) الروم : 21 ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، القائل : (
لا يفرَك مؤمنٌ مؤمنةً ، إن كره منها خلقاً ، رضي منها آخر ) رواه مسلم . أما بعد
:
فإن الحياةَ الزوجية مشروعُ العمر ، ومتنُ
الحياة ، نواةُ المجتمع ، وسرُ بقاء البشرية . علاقةٌ جليلةُ تنعقد بكلمة الله ،
وتحوطها أمانةُ الله . طرفاها الذكر والأنثى ، وثمرتهُا الذريةُ الطيبة ، قال
تعالى : ( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) النحل:
72.
وهذه الحياة يمكن أن تكون :
1- جنةً
وارفةَ الظلال ، يجد فيها المرء سَكَنه ، ويلتقط نفَسَه ، ويأوي إلى حبيبه ، في
هجير الكبد الذي خلق فيه ، والكدح الذي يجري في مضماره .
2- جحيماً
لا يطاق ، يضاعفُ همومَه ، ويزيدُ توتَره ، ويشوشُ ذهنَه ، ويكدرُ صفوَه .
3- وقتاً
هدراً ، وزمناً ضائعاَ. جسداً بلا روح ، ورسماً بلا معنى . لا تعدو أن تكون
(مأوىً) و (مطعماً) و ( قضاءَ وطر ) ، خاليةً من (السكن) و (المودة) و (الرحمة) .
والسعادة الزوجية ، حلمٌ ينشده الجميع ، وأمنيةٌ
تراود كل زوجين ، ولكن المقاصد تنال بالأسباب ، ليس بأمانِيكم ولا أمانيِّ أهلِ
الكتاب . ولا يقوم بناء السعادةِ الزوجية إلا على ركنين أساسيين :
أحدُهما : جلبُ
أسباب المودة ، واستدامتُها .
والثاني : دفعُ
أسباب الخلاف ، ورفعُها .
ومحلُ
بحثِنا في هذه المحاضرة ، في الركن الثاني ، المتعلقِ بالخلافاتِ الطارئةِ على
الحياة الزوجية ، وأسبابهِا ، وطرقِ علاجها . والله المستعان ، وعليه التكلان .
تبتدىء الحياةُ الزوجية بالتقاء روحين ، وبدنين
، ينتميان إلى تكوينات نفسية ، وعقلية ، واجتماعية ، متقاربة ، أو متباعدة . وتغمر
بهجةُ العرس ، والفرحُ بالحياة الجديدة ، جميعَ النتوءات والتباينات المختزنةِ لدى
كل منهما . حتى إذا ما هبط منسوب هذا الفيضان المؤقت ، بدت تلك الفروق الطبيعية ،
وانكشف كل منهما على صورته التي جبله الله عليها ، أو اكتسبها من أبويه ومجتمعه.
وحينئذ : إما أن يتمكن الطرفان من التوافق والتقارب، فيهنئآ ، ويسعدا، أو يتنازعا
، فيفشلا ، ويقع الفراق ، أو النكد المستديم .
وقد أرسى الإسلام قواعد العلاقة الزوجية على أسس
ثابتة واضحة ، توزع الحقوق والواجبات على طرفي عقد الزوجية ، تتمثل في جمل عامة ،
مثل :
1- ( الرجال
قوامون على النساء ) النساء : 34 . أي بالولاية والرعاية والنفقة والمسكن .
2- (
وعاشروهن بالمعروف ) النساء : 19. أي بالصحبة الجميلة ، وكف الأذى ، وبذل الندى .
3- ( ولهن
مثل الذي عليهن بالمعروف ، وللرجال عليهن درجة ، والله عزيز حكيم ) البقرة : 228 فكما
أن على المرأة حقاً لزوجها ، فإن لها حقاً عليه. إلا إن حقه أعظم لما عليه من
القوامة .
4- ( إن لكم
عليهن ألا يُوطئن فُرَشَكم أحداً تكرهونه … ولهن عليكم رزقُهن وكسوتهُن بالمعروف )
رواه مسلم .
كما عالج الإسلام المشكلاتِ التي تعترض مسيرة
الحياة الزوجية ، ووجَّه كلاً من الزوجين في حال نشوز صاحبه ، وإعراضه ، كما وجه
الولاةَ المصلحين ، فقال :
1- (
واللاتي تخافون نشوزهن ، فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن ، فإن أطعنكم
فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً ) النساء : 34 . مخاطباً الأزواج
، واعظاً إياهم بذكر اسمين من أسمائه الحسنى ، ليعلموا أن فوقهم من له الكبرياء
والعظمة .
2- ( وإن
امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً
والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح ، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون
خبيرا ) النساء : 128. في جانب الزوجة ، فتتنازل عن بعض حقها في سبيل حفظ
باقيه .
3- ( وإن
خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق
الله بينهما ، إن الله كان عليماً خبيراً ) النساء : 35 . مخاطباً الحكام والقضاة
.
إن منشأ الخلاف بين الزوجين يرجع إلى أسباب
متنوعة ؛ منها ما يتعلق بالطبيعة البشرية لكل من الزوجين ، ومنها ما يتصل بمؤثرات
اجتماعية ، ومنها ما يرجع إلى الجهل بأحكام الشريعة ، والفهم الخاطىء للحقوق
والواجبات . وسوف نتناول جملة من أسباب الخلاف الزوجي الشائعة في بعض بيوتات
مجتمعنا ، كما أفصحت عنها الاستشارات ، والاستفسارات الهاتفية الكثيرة ، التي
يتلقاها طلبة العلم ، ولجان الإصلاح الأسري ، ثم نتبعُها بطرائقِ الوقاية ، أو
العلاج الممكنة .
أولاً :
الأسباب الطبْعِية :
لعل معظمُ حالات الخصام اليومي بين الزوجين ترجع
إلى الصفات النوعيةِ الخُلُقِية التي طبع عليها كل منهما . فالمرء في بيته يتعرى
من المجاملة ، والتصنع ، والتزويق التي قد يلاقي بها الأبعدين ، ويظهر على حقيقته
. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي )
رواه الترمذي وابن ماجه .
ثمَّ صفاتٌ لدى بعض الأزواج من جنس : الغضب ،
الوَجد ، اللامبالاة ، بذاءة اللسان …
وصفاتٌ لدى
بعض الزوجات من جنس : الغفلة ، الإهمال ، اللجاج والجدل ، الكسل …الخ
وربما العكس
، حملها كل منهما من مسقط رأسه إلى البيت الجديد ، فأثمرت فصولاً من الخصام
والشجار اليومي ، كلما تصادمت تلك الطباع المتباينة .
العلاج : يتلخص
في أمرين :
أحدهما :
ضرورةُ مجاهدةِ المرءِ نفسَه ، وكبحِ جماحِها ، وكسرِ سورتهِا ، وتهذيبِ أخلاقِه
ورياضتِها حتى تعتدلَ ، أو يخففَ من غلوائها . قال تعالى : ( والكاظمين الغيظ
والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) آل عمران : 134 . وقال : ( وإذا ما غضبوا
هم يغفرون ) الشورى : 37 . وقال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وإن الله
لمع المحسنين ) العنكبوت : 69 .
الثاني :
تعرفُ كلِّ طرفٍ على طبيعة الآخر ، وفهمُه له ، ومعاملتُه وفق ذلك الفهم . فيتحاشى
أسباب إثارته ، وإن بدت له تافهة ، ويتلمسَ مواطن رضاه ، وإن شقَّت عليه .
وربما كان الأزواجُ يتحملون العبءَ الأكبرَ من
العلاج ، لما يتميز به جنس الرجال ، عموماً ، على جنس النساء ، من الصبر والاحتمال
. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من
ضِلَع ، وإن أعوجَ شيءٍ في الضلع أعلاه ، فإن ذهبتَ تقيمَه كسرتَه ، وإن تركتَه لم
يزلْ أعوجَ . فاستوصوا بالنساء خيراً ) رواه البخاري .
ثانياً :
الأسباب الاجتماعية :
تتأثر الأسرةُ الناشئةُ بالوسط المحيط ، سلباً
وإيجاباً ، سيما أقاربِ الزوجين . فقد يقع احتكاك بين أحد الزوجين ووالدِ الآخر أو
والدتِه ، أو بعضِ إخوانِه أو أخواتِه ، فينحيَ باللائمة من حيث يشعرُ أو لا يشعر
على شريك حياته ، ويفرغَ فيه فورةَ غضبِه وحنقِه . وقد يسعى بعض أقارب الزوجين
لأسباب مختلفة ، لاستشراف الحياة الخاصة بهما ، والتدخلِ في شؤونهما الخاصة ،
فتنشأ خلافات لم تنبع من ذاتيهما ، وتكثر الأطراف، والقيل والقال،وتتعقد المشكلة.
ومن أمثلة ذلك :
- شعورُ
أمِّ الزوجِ بمزاحمة الزوجة، واستئثارِها بابنها، فتعمد إلى مضايقتِها ، وتأليبِ
ابنها عليها.
- حفزُ أمِّ
الزوجةِ لابنتها على المطالبة بمزيد من النفقة من زوجها .
- سماع أحد
الزوجين ما يسوؤه من أهل الآخر ، أو بدوُّ تصرفٍ ، غيرِ لائقٍ منهم .
والعلاج : يتلخص
في أمرين :
أحدُهما :
أن يحرص الزوجان على حفظ خصوصياتهِما ، وعدمِ بذلها لكل طفيلي مستطلع ، وأن يحيطا
حياتهما الزوجية بسور من المهابة والاحترام ، يحجز الآخرين من انتهاكها ،
بالاقتراحات والإيحاءات ، وجميعِ صور التخبيب .
الثاني : أن
يستيقن كلٌّ منهما أنه لاتزر وازرة وزر أخرى ، وأنْ ليس من العقل والدين والمصلحة
أن يجر أخطاء الآخرين إلى عقر داره ، فتتضاعفَ مصيبتُه . بل يخلع على عتبة بابه ،
وحدود مملكته جميع الملابسات الخارجية ، ولا يسمح لها أن تفسد عليه عيشه ، أو
أن يرمِ بها بريئاً .
ثالثا :
الأسباب المسلكية :
يكتشف أحد الزوجين في صاحبه بعد فترة من الزواج
بعض الممارسات والسلوكيات المنحرفة . وربما طرأ ذلك على أحدهما بعد سنين من العشرة
الحسنة . وحينئذٍ تهتز العلاقة الزوجية ، وتعصف بها رياح الخلاف ، وقد تقتلعُها .
ومن أمثلة ذلك من جانب الزوج :
- التدخينُ
، وربما شربُ المسكر ، أو تعاطي المخدر.
- مشاهدةُ
القنوات الفضائية الماجنة ، أو المواقع الإباحية في الإنترنت .
- السفرُ
المريب إلى الخارج مع رفقة السوء .
- التساهلُ
في الصلاة ، وربما تركها .
العلاج : إنالتعامل
مع هذه الانحرافات من جانب الزوجة يتفاوت بحسب درجة الانحراف ، وتأثيرِه على
العشرة الزوجية . وهو لا يخلو من حالين :
أحدهما : أن يكون انحرافاً مسلكياً محتملاً
شرعاً ، أو عشرةً ، فحينئذٍ ينبغي للزوجة العاقلة الحصيفة أن تسلك مسلك الموعظةِ
الحسنة ، والتذكيرِ المستمر، والصبرِ والتحمل ، حتى يُعافى قرينُها مما ابتلي به ،
وألا تصعِّدَ الخطاب ، وتقطعَ خطَّ الرجعة عليه ، بل تغلبَ المصلحة
الراجحة ما دام في قوس الصبر منزع ، وفي الرجاء مفزع . ومن ذا الذي ترضى
سجاياه كلُّها ؟! ومن ذا الذي يخلو من جميع أسباب الفسق ، وخوارم المروءة ؟!
وأما إن نشز الزوجُ عن زوجته ، وأعرض عنها ،
لرغبته عنها ؛ لكبرٍ ، أو مرضٍ ، أو نوع كره ، فلا بأس أن تسترضيَه بالتنازل عن
بعض حقها ، إن شاءت ، حتى لا يطلقها . قال تعالى : ( وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً ، والصلح خير ) النساء :
128 . قالت عائشة ، رضي الله عنها ، هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها ،
فيريد طلاقها ، ويتزوج عليها ، تقول له : أمسكني ، و لا تطلقني ، وأنت في حل من
النفقة علي ، والقِسمة لي ) ، وكما فعلت أمُّ المؤمنين سودة ، رضي الله عنها ،حين
أسنت ، وخشيت أن يفارقَها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلت يومها لعائشة رضي
الله عنها .
الثاني :
ألا يكون ذلك الانحراف مما تتسع له دائرة الإسلام ، كترك الصلاة ، أو لا تطيقه
حرائر نساء المسلمين ، من الأخلاق الرذيلة ، ثم لم تجُد معه الموعظة والنصيحة ،
فلا غرو أن تفتك الحرة نفسها ، وتسعى في الفراق بخلع أو فسخ أو طلاق . فإن آخر
الطب الكي .
فإن كان الانحراف من جانب الزوجة ، ككثرة خروجٍ
بغير إذنه ، ومهاتفاتٍ مريبة ، وتبرج ، ونشوز عن الزوج ، ونحو ذلك ، فقد رتب الله
لعباده طرائقَ في التربية والتأديب للنساء ، فقال :
( واللاتي
تخافون نشوزهن ، فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن ، فإن أطعنكم فلا تبغوا
عليهن سبيلاً ، إن الله كان علياً كبيراً ) النساء : 34 .قال الشيخ عبد الرحمن
السعدي رحمه الله : ( عظوهن ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته ، والترغيبِ في
الطاعة ، والترهيبِ من المعصية فإن انتهت ؛ فذلك المطلوب ، وإلا ؛ فيهجرها الزوج
في المضجع ؛ بأن لا يضاجعَها ، ولا يجامعَها بمقدار ما يحصل به المقصود بواحد من
هذه الأمور ، وأطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ؛ أي فقد حصل لكم ما تحبون ؛ فاتركوا
معاتبتَها على الأمور الماضية ، والتنقيبَ عن العيوب التي يضر ذكرُها ، ويحدث
بسببه الشر ) .
رابعاً :
الأسباب المالية :
جعل الله أمر النفقة منوطاً بالزوج ، وعلل به
قيامه على المرأة ، فقال : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
، وبما أنفقوا من أموالهم ) النساء : 34 . وتبتدىء الالتزامات المالية للزوج تجاه
زوجته بالصداق ، وهو العوض الذي يدفع بعقد النكاح ، ثم نفقة مثلها من قوت ، وكسوة
، وسكنى ، بعد العقد ، إذا تسلمها ، حتى المعتدة في طلاق رجعي ، وحتى البائن بفسخ
أو طلاق إن كانت حاملاً . وتقديرُ النفقة يرجع به إلى العرف .
وربما نشأ بين الزوجين خصام بسبب تأخير الصداق
من الزوج ، أو تقتيرِه في النفقة . أو بسبب تبذير الزوجة ، ومطالبتها بمزيد نفقة .
وقد جرى شيء من ذلك في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أزواجه أن يوسع
عليهن في النفقة ، وهو لا يملك ، فأنزل الله تعالى آية التخيير : ( يا أيها النبي
قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً
جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن
أجراً عظيماً ) الأحزاب : 28 ، 29 .
وفي السنوات الأخيرة ، بعد أن صار كثير من
النساء يعملن في الوظائف الحكومية ، ويكون لهن دخول تضارع دخول أزواجهن
أحياناً ، فيشترك الزوجان في مواجهة متطلبات الحياة الزوجية من بناء منزل ،
وتأثيثِه ، وشراءِ سيارة ، وربما استراحة ، ونحو ذلك . ويكون الحال في أول الأمر
مبنياً على التسامح ، والإغضاء ، والعاطفة ، من جانب الزوجة ، والغفلة أو التغافل
من جانب الزوج ، حتى إذا ما بدت بوادرُ خلاف ، أعادت الزوجة النظر ، وطالبت
بمستحقاتها ، سيما إذا بلغ الأمر حداً مأساوياً في نظرها ، بأنْ فكَّر الزوج
بالتعدد ، فتتفاقم المشكلة حينئذ .
العلاج : يتلخص
في أمرين :
أحدُهما :
أن يتقيَ الزوجُ ربَّه في بذل كاملِ الصداق ، كما أمر الله الأزواج بقوله :( وآتوا
النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ) النساء
: 4 . قال ابن كثير رحمه الله : ( إن الرجلَ يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتماً
، وأن يكون طيب النفس بذلك ). وأن يبذل النفقة الواجبة التي تليق بزوجته ، من غير
شحٍ ، ولا منَّة . ولا يحل له أن يأخذ شيئاً من مالها ، غصباً ، أو إلجاءً ، أو
إحراجاً ، من بقية مهرٍ ، أو إرثٍ ، أو هبةٍ ، أو راتبِ وظيفة ، أو غيرِ ذلك ، إلا
بطيب نفسٍ منها . ولا أن يسقط النفقة بناءً على أن عندها ما يكفيها ، كما يتوهمُ
بعض الأزواج . فإنَّ كلَّ أحدٍ تلزمه نفقة غيره ، تسقط نفقته بغناه ، إلا الزوجة .
كما أن على الزوجة أن تتقيَ الله ، وألا ترهقَ
زوجها بالسؤال، سيما إذا كان ضعيف الحال. وأن تحسن تدبير بيتها ، وتوفرَ على زوجها
، يبارك الله لها في عيشها . وقد وعظ رسول الله صلى الله عليه و وسلم النساء يوماً
، فقال : ( يا معشر النساء : تصدقن ، وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكن أكثرَ أهلِ
النار . فقالت امرأة منهن جَزلَة : ومالنا يا رسول الله أكثرَ أهل النار ؟ قال :
تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ) متفق عليه .
وإذا كانت الزوجةُ ذاتَ وظيفة ، قد أذن لها
زوجُها فيها ، أو شرطت عليه الاستمرار فيها حين العقد ، فقبل ، فإن مقتضى المروءةِ
أن تبذل شيئاً من دخلها ، تخففَ به عن زوجها ، لأنه قد ضحى بشيء من كمال العشرة من
أجلها ، ولو شاء لمنعها ، أو فارقها .
الثاني : أن
على الزوجين أن يضبطا حصصَهما المالية فيما يشتركان فيه من نفقات كبيرة ، كبناء
منزل ، ويوثقا ذلك بالكتابة والشهود ، حتى لا يقعَ بينهما خلف واشتباه في المستقبل
. فإنَّ بذلَ المرأةِ مالهَا لزوجها ، في الغالب ، نوعٌ من الإقراض ، أو الشركة .
وقد أمر الله عبادة بكتابة الدين ، والإشهادِ عليه في أطول آية في القرآن ، وعلل
ذلك ، وهو الحكيم الخبير بعباده ، بقوله: ( ذلكم أقسط عند الله ، وأقوم للشهادة ،
وأدنى ألا ترتابوا ) البقرة : 282 .
خامساً :
الأسباب الفنية :
تنشأ بعض الخصومات اليوميةِ ، أو الأسبوعيةِ ،
أو الشهريةِ ، بين الزوجين بسبب خلل في التنظيم ، والسياسة المنزلية، في أمور تبدو
تافهة ، وبسيطة ، ولكنها تلقي بظلالها القاتمة على الحياة الزوجية ، وتركُها
عالقةً دون حسمٍ يؤدي إلى تراكماتٍ غيرِ محمودةِ العواقب . ومن أمثلة ذلك :
- الخلافُ
حول مواعيد الوجبات ؛ تقديماً وتأخيراً .
- الخلافُ
حول زيارات الأقارب ، من الطرفين .
- الخلافُ
حول الإنجاب و توقيت الحمل .
- الخلافُ
حول الذهاب إلى السوق ، لشراء الاحتياجات .
- الخلافُ
حول السفر للنزهة ، ونحوها .
- الخلافُ
حول استقبال الزوار من الطرفين .
العلاج : يتم حسمُ
هذه القضايا برسم خطةٍ واضحةٍ ينتهجها الطرفان ، ويتفقان عليها في أجواء مطمئنة ،
حسب ما تقتضيه مصالحُهما ، ويحددان مواعيدَ زمنيةً ؛ يوميةً ، أو أسبوعيةً ، أو
شهريةً أو سنويةً ، بناءً على تجاربهما السابقة ، ثم يلتزمان باحترامها ، وعدمِ
خرقها ، أو إعادة البحث فيها ، إلا لموجِبٍ يتفقان عليه ، وبذلك تستريح الأسرة من
غُثاء كثير .
سادساً :
الأسباب المتعلقة بالأطفال :
الأطفال زينةُ الحياة ، وبهجةُ البيوت ، وثمرةُ
العلاقة الزوجية . قال تعالى : ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) النحل : 72. ولكن
هذه النعمة تنقلب نقمةً في بعض البيوت ، حين يجعل منها الزوجان ميداناً
لاختلافاتهِما ، ومحلاً لتجاذباتهِما . فالأب يلقي باللائمة على الأم في التفريط
بخدمتهم ، والقسوةِ في معاملتهم ، والأم تنعى عليه إهمالهَم ، وتركَهم يتسكعون في
شوارع الحي . وتتم هذه المشاهدُ غالباً بمرأىً ومسمعٍ من هؤلاء الأطفال الأبرياء ،
وربما عمد أحد الأبوين إلى اجتذاب الأطفال إلى صفِّه ، وإيغارِ صدورهم على الآخر ،
فيقع هؤلاء الأطفال ضحيةً للاضطرابات النفسية المبكرة .
العلاج : يتلخص
في أمرين :
أحدهما : أن
يتقيَ الله كلٌّ من الأبوين فيما يدخل تحت مسؤوليته . فقد قال الله تعالى : ( يا
أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ، عليها ملائكة
غلاظ شداد ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) التحريم : 6 . وقال صلى
الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته
؛ والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولدِه.) متفق عليه . فالواجب على كلٍ من الزوجين
القيامُ بما استرعاه الله ، وائتمنه عليه من الذرية ،كلٌ فيما يخصه ، سواءٌ كان
ذلك مما يتعلق بأمر المعيشة ؛ من طعامٍ ، وشرابٍ ، وكسوةٍ ، أو كان يتعلق بالتربية
، والرعاية ، والتأديب . وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبدٍ يسترعيه
الله رعيةً ، يموت يوم يموت ، وهو غاشٌ لرعيته ، إلا حرم الله عليه الجنة ) متفق
عليه . وفي رواية : ( فلم يحُطها بنصحه ، لم يجد رائحة الجنة )
الثاني : أن
يتحاشيا الخلاف والشجار أمام أطفالهما ، فضلاً أن يسعيا ، أو أحدهما ، لتحزيبهم ،
أو تأليبهم ، وأن يتناقشا فيما يتعلق بسياسة أطفالهما في خلوتهما بروِيَّة ، وبعدِ
نظر .
سابعاً :
التعدد :
لعل من أعظم دواعي الخلاف الزوجي في مجتمعنا
الراهن ، اقترانُ الزوج بزوجةٍ أخرى ، أو سعيُه فيه ، أو حتى مجردُ تفكيره به ،
والتصريحُ بذلك ، أو التلويح ، فتفقدَ الزوجة صوابها ، وتخرجَ عن طبيعتها ، حيث
تشعرُ بالطعن في كفايتها ، والنيلِ من تفردها ، والتخوفِ من الآثار الاجتماعية
لهذه الخطوة . وهو أمر طبيعي لا تلام عليه المرأة على وجه العموم . ولكن آثاره على
الحياة الزوجية قد تتعدى المدى المتوقع ، ولا تكون سحابةَ صيفٍ عما قليلٍ تقشَّع .
بل تطبع العلاقة الزوجية بطابع النكد المستمر الذي يفضي إلى الفصام . وفي كثير من
الحالات يتلهى بعض الأزواج باستفزاز زوجاتهم بالحديث عن التعدد ، غيرَ مبالين
بالألم النفسي الذي يجترحونه تجُاه زوجاتهم ، وربما كانوا غيرَ جادين في دعواهم ،
فلا يخرجون إلا بالإثم والسخط .
العلاج : يتلخص
في ثلاثة أمور :
أحدُها : أن
يكف الزوج عن مضغ هذه التعريضات ، أو التصريحات المؤذية ، التي تعكر صفو الحياة
الزوجية ، وليس من ورائها طائل ، حتى وإن كان صادقاً .
الثاني : أن
يتلطفَ بزوجته الأولى إذا صح منه العزم ، وأن يحتملَ منها ردَّ الفعل العنيف ،
والصدمةَ الأولى ، حتى تعود إلى حال السواء . كما أن على الزوجة أن تصبرِّ نفسها ،
وتعلمَ أن هذا حقٌ شرعي لزوجها ، وأن تحمد الله أن جعله في الحلال ، ولم يصرفه في
الحرام .
الثالث : أن
يقوم الزوج بالقسطِ والعدلِ بين زوجاته فيما يملك من القسمِ والنفقة ، وأن يحذر من
الجور . قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ، جاء
يوم القيامة وشقُّه مائل ) رواه الخمسة . ومن ذلك :
- ألاَّ
يجمع بينهما في مسكنٍ واحدٍ إلا برضاهما .
- أن يسويَ
بينهما في القسم ، ليلةً وليلةً ، حتى وإن كان مريضاً ، أو كانت هي مريضةً ، أو
حائضاً ، أو نفساء . لفعله صلى الله عليه وسلم ، ولأن مقصودَ القسمِ الأنسُ
والإيواء . وعمادُ القسم الليلُ ، وما يليه من النهار تبعٌ له . وله الدخول على
ضرتها في يومها للحاجة ، من غير أن يطيل ولا يجامع .
- يستحب له
أن يسويَ بينهن في الاستمتاع ، و لا يجب ، لقوله تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا
بين النساء ولو حرَصتم ) النساء :129 . قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : في الحب
والجماع . وقالت عائشة ، رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم
بين نسائه ويعدل ، ثم يقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ،
ولا أملك ) رواه الخمسة .
- إذا أراد
السفر بهن جميعاً ، قسم كما يقسم في الحضر.وإذا أراد السفر ببعضهن أقرع بينهن .
- أن يعدل
بينهن في كل شيءٍ ؛ من نفقةٍ واجبةٍ ، أو عطيةٍ ، على الصحيح .
هذه بعض
أسباب الخلافات الزوجية الشائعة ، وعلاجُها . ولا ريب أن السعادة الزوجية لا تكتمل
إلا بانضمام أسباب تحصيل المودة وبنائِها ، مما يحتاج إلى مقامٍ آخر . أسأل الله
اللطيف الخبير أن يصلح حال المسلمين ، وأن ينزل السكينةَ والطمأنينةَ على بيوتهم ،
وأن يهديَهم سبل السلام ، وأن يقيَهم الفتنَ ما ظهر منها وما بطن ، وأن يصرف عنهم
شرورَ أنفسِهم ، وشرَ الشيطان وشِركه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . وصلى الله وسلم
على عبده ونبيه محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه / د. أحمد بن
عبدالرحمن بن عثمان القاضي
عنيزة . في : 15/10/1423
|