طباعة اضافة للمفضلة
الأهداف التربوية في وصايا لقمان لابنه
4392 زائر
06-01-2013
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
---


اضغط هنا لتحميل الرسالة

نص الرسالة

(الأهداف التربوية في وصايا لقمان لابنه)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :

فإن الله ، عز وجل ، خلَّد في الذكر المحفوظ مواعظ تربوية ، ووصايا أبوية ، صدرت من مرب حكيم ، وناصح أمين . جوامع كلم ، وفصوص حكم ، تغني عن كثير من النظريات والدراسات ، وتختصر الجهود والأوقات ، بأبلغ عبارة ، وأوضح إشارة . كيف لا ! وقد آتى الله قائلها الحكمة ، ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(البقرة: من الآية269).

هذا ، وإنا لفي زمن يحتفي كثير من الباحثين في مجال التربية بقول فلان وعلان من اليهود والنصارى والذين لايعلمون ، ولا يرفعون رأساً بقواعد التربية الإيمانية التي بثها الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأجراها على ألسنة رسله ، وصالحي خلقه . لا أقول ذلك غمطاً للتجارب الإنسانية المبذولة في علم التربية والسلوك ، ولكن أسىً وأسفاً على الإعراض عن هدي القرآن ، واتخاذه منهجاً أصيلاً ، ومرجعاً تعرض عليه الأفكار والنظريات .

لقد عالجت سبع آيات في سورة لقمان موقفاً تربوياً يحتاج إليه الآباء والأمهات والمربون والمعلمون لمرحلة حساسة من عمر الناشىء ، ووصَّفت أركان العملية التربوية : المربي ، والهدف ، والأسلوب . فلم يكن القرآن ليغفل هذا الجانب الخطير من حياة البشر دون بيان وتبصير . قال تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية38) .

أولاً : المربي :

وصف الله المربي الفاضل في هذه الآيات بالحكمة ، فقال :(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (لقمان: من الآية12) قال ابن فارس : ( الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع .. والحكمة هذا قياسها ، لأنها تمنع من الجهل ) معجم مقاييس اللغة . ص : 258 . وقال ابن منظور : (العلم والفقه ) لسان العرب : 3/270. وقال الراغب:(الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل ، فالحكمة من الله تعالى : معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان : معرفة الموجودات ، وفعل الخيرات ، وهذا الذي وُصف به لقمان ) المفردات.ص :126.

فتبين من هذه التعريفات أن الحكمة في التربية وغيره تقوم على ساقين : العلم ، والفقه . وقد نبه على هذا الشيخ عبد الرحمن السعدي ، رحمه الله ، فقال : ( الحكمة : العلم بالحق على وجهه وحكمته ، فهي العلم بالأحكام ، ومعرفة ما فيها من الأسرار والإحكام . فقد يكون الإنسان عالماً ولا يكون حكيماً ، وأما الحكمة ؛ فهي مستلزمة للعلم ، بل وللعمل ، ولهذا فسرت الحكمة بالعلم النافع والعمل الصالح ) تيسير الكريم الرحمن : 3/1350 .

فالمربي الحكيم هو الذي جمع العلم والفهم ، وأتبع ذلك بالعمل ، وحسن التصرف والتأتي ، فكان قدوة صالحة للمتربي . وهذا ما يفسر لنا سر اختلال التربية في كثير من المواقف التربوية ، بسبب اختلال أحد أوصاف المربي ، فيجيء عمله خداجاً .

وليست هذه الأوصاف مخصوصة بالأنبياء ، دون من سواهم من بني آدم ، فإن لقمان ، رحمه الله ، رجل صالح . قال ابن كثير ، رحمه الله : ( اختلف السلف في لقمان ، عليه السلام : هل كان نبياً، أو عبداً صالحاً من غير نبوة ؟ على قولين ، الأكثرون على الثاني ... وإنما ينقل كونه نبياً عن عكرمة ، إن صح السند إليه ، فإنه رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة فقال : كان لقمان نبياً . وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ، وهو ضعيف . والله أعلم ) تفسير القرآن العظيم :6/334،333 .

ومن مظاهر حكمة المربي مراعاته للخصائص النفسية والعقلية والاجتماعية والمسلكية التي يعيشها المتربي في مرحلة ما ، نلحظ ذلك في الأساليب التالية :

1- أسلوب الموعظة : (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ)(لقمان: من الآية13) .

قال ابن منظور : ( الوعظ ، والعِظة ، والعَظة ، والموعظة : النصح والتذكير بالعواقب ، قال ابن سيده : هو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب )لسان العرب:15/345 .وشواهده كثيرة.

2- أسلوب التودد : وذلك في تكرار الخطاب بقوله : ( يا بني )

3- أسلوب التدليل والتعليل : كقوله : ()وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14)

4- أسلوب التنفير من الأعمال المستقبحة : كقوله : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس) ،) وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(لقمان: الآيتين 18،19)

ثانياً : المتربي :

لم يجيءْ في القرآن وصف لابن لقمان ، سوى وصف البنوة بصيغة التصغير ( يا بني ). والظاهر ، والله أعلم ، أنه حين الموعظة كان قد تعدى مرحلة الطفولة ، التي لا تدرك إلا المحسوسات ، إلى مرحلة المراهقة والبلوغ التي يدرك صاحبها المعاني والمدلولات ، بل ويصح أن توجه له الأوامر والنواهي من التكليفات . كما يلتمس من السياق أنه كان مؤدباً ، مصغياً ، باراً لا يقاطع أباه . ولا ريب أن تفاوت مستوى المستهدفين بالتربية له أكبر الأثر في نتائجها .

ثالثاً : الأهداف :

تضمنت هذه المواعظ الحكيمة زبدة الأهداف التربوية التي ينبغي أن يسعى إليها المربون في هذه المرحلة ، ويقدموها على غيرها ، فيقدمون ما قدم الله ، ويعظمون ما عظم الله ، ويبدءون بما بدأ الله به .

1- التوحيد : (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13)

إن الناشيء ، وهو يترحل من سذاجة الطفولة، إلى مدارج البلوغ، تصحو فطرته ، ويتيقظ عقله، وتتنبه مداركه لاستكناه ما حوله ، والبحث عن المعاني والعلل وراء المظاهر والأشكال ، فتقوده فطرته السليمة إلى الإيمان بالله وتوحيده . ولكن قد يعرض لهذه الفطرة المتوهجة ، والعقل الوقاد، عوارض تحرفها عن المسار الصحيح ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال : ( إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ) رواه مسلم : 4/2197

إن على المربي أن يغتنم هذه الشفافية الإيمانية ، والصدق الصراح الذي يغمر نفس الناشىء في هذه المرحلة ، ويعمق فيه معاني التوحيد العلمي والعملي؛ بتعريفه أولاً بتوحيد المعرفة والإثبات وما ينبغي لله من صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، وما ينزه عنه من صفات النقص والعيب ومماثلة المخلوقين . وثانياً : بتوحيد القصد والطلب ، وإفراد الرب بالعبادة وحده ، والعناية التامة بالعبادات القلبية ؛ كالمحبة ، والخوف ، والرجاء . كما أن على المربي أن يكشف للناشىء بشاعة الشرك بمختلف أنواعه ومظاهره ، ويبين له أنه أظلم الظلم وأعتاه : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13) . فهذا أوان استنبات هذه البذور الصالحة ، وقلبه تربتها القابلة . وستسهم هذه التربية الإيمانية في مطامنة النزعات الانفعالية ، ومعالجة الانحرافات المسلكية ، وإضفاء السكينة عليه . وإن فوات البناء الإيماني في هذه المرحلة لخسران مبين . و لا يصح للمربين أن يفوتوه بدعوى أن بلادنا ، بحمد الله ، خلية من البدع العقدية والعملية ، فإن بند الصيانة غير بند الإنشاء . كما أن الانفتاح الإعلامي يحمل ألواناً لا حصر لها من البدع الوافدة .

2- بر الوالدين وشكرهما : (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان:14) .

إن المراهق لا يدرك في هذه المرحلة قضية الحقوق والواجبات ، ولا يحسن ترتيب الأولويات، فيطيش ميزانه ، ويجترح العقوق والسيئات . فكان من الضروري أن يبصر بالآداب الشرعية ، والقواعد المرعية ، والحقوق الاجتماعية . وأجلها ، بعد حق الله ، حق الوالدين؛ ببرهما، وشكرهما وكيفية معاملتهما في حال الإيمان أو الكفر ، والبر أو الفجور .

إن تنمية هذا الهدف في حس الناشىء سيستتبع احترامه لبقية الحقوق ؛ كحق ذوي الأرحام ، والجيران ، والزوج ، والصاحب ، والولاة ، وسائر المسلمين . وسينشىء عنده حرجاً ، وقلقاً تجاه انتهاك الحقوق ، والتفريط بالواجبات . وهذا أساس متين في التربية الاجتماعية السوية للمراهق .

3- الاتِّباع والانتماء للحق وأهله : ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ)(لقمان: من الآية15)

يشعر الناشىء بحاجة إلى الانتماء ، والانضمام إلى فئة ما ، يأوي إليها ، و يذب عنها ، ويتحمس لمقاصدها ، مهما بدت تافهة ، كما نلمس ذلك لدى الناشئة المنتمين إلى فرق رياضية . وهي حاجة فطرية ، جبل عليها الآدميون ، بالميل إلى من يجانسهم ، ويشاكلهم . وتكون أقوى ما تكون لدى المراهق ، لكونها تحقق له عنصر الأمن النفسي والاجتماعي ، فيتعين تلبيتها بطريقة صحيحة ، تستثمر طاقاته ، وتحفظ أوقاته من أن تضيع سدى ، أو تعود عليه بالردى .

لا ريب أن المحضن الصالح ، والبيئة النقية التي ينبغي أن يترعرع الناشىء في أعطافها ، بيئة الصالحين ، المنيبين ، السالكين سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولابد أن ينأى به عن سبيل المغضوب عليهم والضالين والغافلين والفسقة والبطالين . إنه من الخطأ الواضح أن يعمد بعض الآباء المشفقين إلى ضرب نطاق محكم حول أبنائهم ، وخفرهم في البيوت ، بدعوى صيانتهم من رفقاء السوء ، فإن ذلك لن يدوم ، ولن يستطيعوا ، وربما ولَّد ذلك عقدة حرمان في ضمير الناشىء ، يتربص للخلاص منها . والتصرف الصحيح أن يُوفر له سبيل آمن ، ومهيع رشيد ، يقضي فيه نهمته ، ويفرغ فيه جهده وهمته ، وسط كوكبة من أقرانه الأخيار ، تحت رعاية من أئمة الهدى والفضل . قال عبد الله بن شوذب : ( إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك ، أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها ).

ولعل من سبل المنيبين أن يُسلك الناشىء في حلق القرءان ، ومجالس الذكر ، دروس العلم ، ويستفرغ جهده في مناشط البر ، والسعي في المصالح العامة ، كلٌ حسب طاقته ، وفي السياق الطبيعي لمواهبه واستعداداته.ويستطيع المربي الحكيم أن يضع خطى فتاه على الطريق الذي يلائمه.

وكم من إنسان يكتشف الحقيقة ، إن هو اكتشفها ، بعد فوات الأوان ، وانصرام الزمان ، وانحطاط القوى ، وبرود الهمة .فكيف لو اتبع سبيل من أناب، في مقتبل العمر، وفوعة الشباب؟!

4- مراقبة الله : (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16)

إن من طبيعة الناشيء التقحم ، والطيش ، وعدم التحسب لعواقب الأمور ، مما قد يوقعه في أعمال وأقوال يشقى بآثارها . فكان من المبكر المهم أن يزرع المربي في نفسه شعوراً داخلياً بمراقبة الله ، وخشيته ، يصاحبه في خلوته ، وجلوته ، وسره ، وعلانيته ، يحجزه عما تمليه طبيعة المرحلة من انتهاك الحقوق العامة والخاصة ، سواء ما تعلق بحق الله ، أو ما تعلق بحقوق الناس . بل ورفع درجة التحسس إلى أقصى ما يكون ( مثقال حبة من خردل ) . والنتيجة : أن يكون مؤمناً صالحاً لا مواطناً صالحاً ، فحسب ، فإن المفهوم الغربي للمواطنة يقف عند حد الاصطدام بحقوق الآخرين ، فقط ، يحميها القانون ، بينما تنشيء التربية الإسلامية صلاحاً ذاتياً تجاه النفس والآخرين ، تزعه رقابة الله ، والشعور بدقة علمه ، وسعة إحاطته .

إننا نسمع بين الفينة والفينة دعوات تصدر من كتَّاب ، أو حتى من مختصين ، تنادي برفع الحرج عن نفسية الناشيء ، ونبذ عبارات العيب ، والنقد ، وتركه وشأنه !! وهي دعوى تحتاج إلى فحص ونظر وتفصيل ؛ فزرع الأوهام والمعلومات الكاذبة ، ينتج نفسية معقدة مهزوزة . ولكن خصال الإيمان سياج أمان ، وخوف يعقبه أمن : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام:82) . كما أنه يتعين على المربي أمام المتربي أن يميز الخبيث من الطيب ، وأن يقول للمحسن أحسنت , وللمسيء أسأت ، وفق المعايير الصحيحة .

5- إقام الصلاة : ( يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ ) (لقمان:17).

إن الحاجة إلى العبادة حاجة فطرية ، لا تستقيم النفس الانسانية بدونها ، ولا تكون سوية بفقدها :(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) والصلاة من أعظم صور العبودية التي تلبي هذه الحاجة ، بأذكارها ، وهيئاتها ، إذا هي أديت على وجه الاستقامة ، كما يدل التعبير المطرد في القرءان : ( أقم ، أقيموا ، إقام ، يقيمون ..) . وفي نفس الناشيء توق ، وظمأ لا يطفئه إلا أن يصف قدميه في محرابه ، ويصوب بصره إلى موضع سجوده ، ويناجي ربه ويدعوه أقرب ما يكون إليه وهو ساجد . إنها عبادة ضرورية لحصول الطمأنينة التي ينشدها المراهق . قال صلى الله عليه وسلم : ( والصلاة نور ) رواه مسلم .

إننا في هذه السنيات الأخيرة نلحظ عزوفاً عن الصلاة في أوساط الناشئة ، وتضييعاً لأوقاتها ، وفتوراً في أدائها ، ومهما تعددت الأسباب المفضية إلى ذلك ، فإنه يتعين على المربين أن يحملوا حملة صادقة ، لتعظيم شأن الصلاة في نفوس النشء الصاعد ، وردهم إلى أكناف المساجد ، متذرعين بكافة وسائل الموعظة والتذكير ، وحينذاك ستختفي كثير من السلبيات التي تقض مضاجع الآباء ، والأمهات ، ورجال الحسبة ، وجنود الأمن .

6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ( وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(لقمان: من الآية17)

إن امتلاك روح المبادرة البناءة ، والشجاعة الأدبية ، وصف نادر في صفوف ناشئتنا ، لأسباب متعددة ، لعل من أهمها عدم الدربة ، والخوف من التبكيت . ويعتقد كثير من الناس أن مثل هذه المهمة الإشرافية تفتقر إلى الطعن في العمر ، والتضلع في العلم ، فيستنكرون صدورها من الشاب ، وربما سفهوه ، فينكفيء على نفسه ، ويعود سلبياً ، لا يرى في المنكر بأساً ، ولا يرفع بإنكاره رأساً . وبذلك تضمر هذه النزعة الإيجابية الخيرة ، في موسم خصبها .

وينبغي أن يتفطن المربون إلى أهمية تنمية روح الغيرة العامة ، والرغبة في الإصلاح ، والجرأة المؤدبة لدى الناشيء ، وتقويمها ، وتوجيهها الوجهة الصائبة ، التي تستجمع شروط الأمر والنهي، من : العلم قبله ، والرفق معه ، والصبر بعده . ويحسن القيام بتطبيقات عملية من قبل المربي ، يقتدي بها الناشيء ، حتى يصبح عنصراً فعالاً نافعاً لمجتمعه .

7- الصبر : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان:17)

الصبر من أمهات الأخلاق الإنسانية ، ومن أجل الأخلاق الإسلامية ، وأعظمها أجراً ، وأحمدها عاقبة ، في الدنيا والآخرة . وحقيقته حبس النفس عن الجزع ، وحملها على ما تكره. ولهذا فهو أصل تفرعت عنه كثير من الأخلاق الفاضلة ، والمروءات . وفي الحديث : ( وما أعطي ابن آدم عطاءً خيراً وأوسع له من الصبر ) . وهو كغيره من الأخلاق له جانب جبلي ، وجانب كسبي يستفاد بالدربة والرياضة .

ويغلب على حال الناشئة ، سيما في زمن الترف وتيسر سبل العيش ، الهلع ، والجزع ، وسرعة نفاد الصبر . فينبغي أن يكون تقوية هذا الجانب من أهم أهداف التربية ، وأن يُبرز بالبيان والمثال ، والقدوة الحسنة .

8- التنفير من الكبر وازدراء الناس : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ )(لقمان:18)

هذا مبتدأ جملة من الصفات المسلكية المنحرفة ، تعتري الشباب خاصة ، وتظهر فيهم أكثر من غيرهم . فإن الفتى يزهو بنفسه ، ويعجبه حاله ، فيأنف عن التبسط والاتضاع للخلق ، ويزدريهم . قال ابن جرير : ( وأصل الصعر : داء يأخذ الإبل في أعناقها ، أو رؤوسها ، حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها. فيشبه به الرجل المتكبر على الناس.ومنه قول عمرو بن حُنَيٍ التغلبي :

وكنا إذا الجبار صعر خدهأقمنا له من ميله فتقوما ) جامع البيان : 21/74 .

قال ابن كثير : ( لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقاراً منك لهم ، واستكباراً عليهم ، ولكن ألن جانبك ، وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث : ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ، وإياك وإسبال الإزار ، فإنها من المخيلة ، والمخيلة لا يحبها الله) تفسير القرءان العظيم :6/338 .

و لا يخطيء السمع والبصر عبارات وتصرفات تبدر من ناشئتنا تنم عن ازدراء بعض الناس ؛ إما بسبب ألوانهم ، أو أعراقهم ، أو بلدانهم ، أو غير ذلك ، بل إنه كثير !! ولا بد من رصد هذه القالات ، والممارسات وتأثيمها ، ورد الناشيء إلى جادة العدل والانصاف ، ولو بنوع مخاشنة وتعنيف ، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بأحد أصحابه حين قال لبلال : يا ابن السوداء !! فقال : إنك امرؤ فيك جاهلية . فحمله ذلك على أن يضع خده في التراب ويقول لبلال :طأ ! ليخرج مادة الجاهلية العالقة في طبعه ، ويستفرغها .

9- ذم الخيلاء والفخر : ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)(لقمان: من الآية18) .

قال ابن كثير : ( مختال : معجب في نفسه . فخور : أي على غيره) تفسير القرءان العظيم :6/339 .

فهما وصفان ذميمان ؛ أحدهما باطني ، والثاني ظاهري . الأول يضر خاصة نفسه ، والثاني يستطيل به على الآخرين بغير حق . وكلاهما مما يقع للناشيء في مقتبل عمره ، وفوعة شبابه .

إن على المربي أن يطامن من غلواء الناشيء ، ويرده إلى حال السواء ، ويبصره بأن معيار الكرامة والفخار التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم)(الحجرات: من الآية13) .

وعلى المربي أن يلحظ الحركات واللفتات التي تنم عن هذا الخلق ، كالمشية الفاجرة المتجبرة، التي تروق لبعض شبابنا ، فيبين له قبحها عند الله وعند الناس ، وينقله إلى حال أرقى :

10- الوقار والسمت الحسن : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِك)(لقمان: من الآية19)

قال ابن كثير : ( امش مشياً مقتصداً ، ليس بالبطيء المتثبط ، ولا بالسريع المفرط ، بل عدلاً وسطاً ، بين بين ) تفسير القرءان العظيم : 6/339 . وما أعجب أن يقع ذلك للشاب !! إنه ليضفي عليه رونقاً وبهاءً وجلالاً . وليس ذلك بممتنع مع دوام التربية والتقويم من مرب ناصح حكيم .

11- اعتدال المنطق ، وأدب الحديث : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)(لقمان: من الآية19)

قال ابن كثير:( لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ) تفسير القرءان العظيم :6/339 إن الأعم الأغلب أن الشاب ينزع إلى رفع الصوت ، والتشدق بالكلام ، والتفاصح ، كما هو جلي لدى المراهقين ، الذين يجدون في ذلك تعبيراً عن القوة والسطوة الكاذبة ، فكان بحاجة إلى الغض من الصوت ، والتنفير من رفعه بلا داع ، بمثال مستقبح . قال السعدي : ( أنكر الأصوات : أفظعها وأبشعها ... فلو كان في رفع الصوت البليغ فائدة ومصلحة ، لما اختص بذلك الحمار ، الذي قد علمت خسته وبلادته ) . والحمد لله رب العالمين .

كتبه /د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة . في 7/1/1424 هـ

   طباعة 
1 صوت
« إضافة تعليق »
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
  أدخل الكود
روابط ذات صلة
الإصدار السابق
الإصدارات المتشابهة الإصدار التالي
جديد الإصدارات
الدرر اللوامع في الخطب الجوامع - إصدارات مركز المشير
مختصر قواعد عربية - إصدارات مركز المشير
منبر السلام: خطب جمعة منتقاة - إصدارات مركز المشير