طباعة اضافة للمفضلة
دموع على الأندلس
1187 زائر
22-07-2015
أبو الحسين الصباحي

دموع على الأندلس

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فاعلم أيها القارئ الكريم أني ترددت كثيراً في كتابة هذه الأوراق؛ لأنها ستضيف إلى آلامِ الحاضرِ آلامَ الماضي، وتذبح القلب بالأحزان وهو يتشحط في الأحزان، وساعد على ذلك تلكأ القلب وعصيانه وتقهقره وامتناعه، واعتذاره عن ذلك قائلاً:

لا أقدر على الطواف بين تلك الفجائع، ولا أقوى على رؤية تلك الفضائع، أما يكفينا ما نراه في عصرنا حتى نطلب رزايا عصر غيرنا ؟!

أرجوك لا تكسر عظماً لا ينجبر ولا تفجر جرحاً لا يندمل.

مالك وتلك الأهوال:

هل تستطيع للميت إحياءً أو للمغتصَب إرجاعاً؟!!

فقلت له:

لا تحاول صدي وردي ودفعي ومنعي، فقد مضت نيتي وقويت عزيمتي؛ ولعلها تشعل نار الغيرة في قلب الرذيل، وتبعث روح العزة في جسد الذليل، وتنتشل الغافل من أوحال الغفلة، وتنجي المخدوع من بحر الخديعة.

فأقول وبالله أستعين:

دخلت جحافل المسلمين جزيرة الأندلس ترفع منار التوحيد وتهد حصون التنديد، مرخصة في سبيل ذلك النفس والنفيس، فقذف الله في قلوب الذين كفر الرعب، فاستحر فيهم القتل وكثر فيهم الأسر، فكُسرت شوكتهم واسُتؤصلت شأفتهم، وذهبت ريحهم واندرست دولتهم، فنصر الله جنده وأعز حزبه وأظهر دينه.

وبعد تلك الحروب الطاحنة والمعاركة الدامية، تفرغ المسلمون لعمارة البلاد وبناء الحضارة والأمجاد، فشمروا عن ساعد الجد يصلون الليل بالنهار حتى وصلوا من التقدم والتطور والرقي والتحضر إلى ذروة سنامها وقمر سمائها، فحصلوا من الحياة الرغيدة والعيشة الهنية ما لم يخطر ببالهم ولم يسنح بخيالهم، فتقلبوا في جنان الدنيا الناظرة، ونهلوا من عيونها العذبة.

فصارت الأندلس قبلة المتعلمين ووجهة الراغبين، يفخر الكفار بالتعلم على أيد المسلمين، ويستعينون بهم في الصراعات مقابل بعض الأراضين.

فلم يرق ذلك للشياطين فأضرمت بينهم نار التفرق، وأعملت فيهم سكاكين التمزق، ونصبت لهم شباك الشهوات، ورمتهم بسهام الشبهات، فانهدت أسس الوحدة الإسلامية، وتقطعت أواصر الأخوة الإيمانية، فتحاسدوا وتباغضوا وتناحروا وتدابروا، وعصوا وأسرفوا وضلوا وفسدوا، وكرهوا الموت وأحبوا الحياة ولو بالتمرغ في تربة الذل والهوان.

هكذا استمر حال المسلمين يهوي في دركات السوء، حتى تساقطت الدويلات الإسلامية واحدة تلوى الأخرى بأيدي الأسبان الفجرة؛ حتى انتهت سلسلة الهزائم المخزية بتسليم غرناطة الخلابة للأسبان الغدرة، مقابل خروج ملكها بأمواله إلى إفريقيا، وعدم التعرض للمسلمين ومساجدهم بسوء، وبهذه النهاية القاسية طوى التاريخ صفحات عز المسلمين في جزيرة الأندلس ، ولكنه نشر صفحات أخرى من الذل على أيدي محاكم التفتيش، التي لم يسلم من وحشيتها حي ولا جماد، فنصَّروا بالقوة من نصَّروا وأحرقوا بالظلم من أحرقوا ، بل طالت نار حقدهم المصاحف وكتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه وغيرها، فأضرموا فيها النيران كما أضرموا في القلوب اﻷحزان، وكل ذلك يفعل أمام أعين الناس من غير نصرة وﻻ استنكار.

فصارت جهود الأجداد هباءً منثوراً على أيدي الأحفاد.

وإذا أراد القارئ الكريم أن يعرف سبب تلك الذلة بعد العزة والألم بعد اللذة والحزن بعد السعادة فليتأمل ما ذكرته صراحة وما نبهت إليه إشارة، وليتأمل قول بعض شعرائهم :

يــــا أهـــل أنـدلــــس للــه دركـــــمُ***ماء وظل وأنهار وأشجـارُ
مـــا جنـــةُ الخلـــدِ إلا فـي دياركـمُ***ولو تخيرتُ هذا كنتُ أختارُ
لا تحسبوا في غدِ أن تدخلوا سقرًا****فليس تُدخلُ بعد الجنـةِ النارُ

وليتأمل هذه العبارة التي جاءت في وثيقة قضائية إسبانية: (أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة) اهـ

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين, هذا والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على خير من أرسل وعلى آله وصحبه أجمعين

كتبه: أبو الحسين الصباحي


   طباعة 
0 صوت
« إضافة تعليق »
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
  أدخل الكود
روابط ذات صلة
المادة السابق
المواد المتشابهة المادة التالي
جديد المواد
رسالة إلى إمام التراويح - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى صائم - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى خطيب - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى إمام - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي
رسالة إلى زوج - بقلم المشرف العام أ.د. أحمد بن عبدالرحمن القاضي